يبدو أن العراق، بما فيه إقليم كردستان، كُتب له ألا يستريح، وألا تعيش القواعد الاجتماعية في ظلّ دولةٍ تلتزم بقوانينها وموادها الدستورية، بل أن تبقى الكلمة الفصل لحملة السلاح وكارتيلات السلطة والقرارات المفروضة من خارج الحدود، فرغم تتالي الضربات والضغط في ملفّي رواتب موظفي الإقليم وبيع النفط، فإن حدّية المواجهة والتكتل ضد الإقليم وموادّه الدستورية لم تكن بهذه الضراوة التي تسعى إلى النيْل من بنية الإقليم واستقراره، مدعومة من أطرافٍ كرديةٍ تخشى كثيراً من العملية السياسية الديمقراطية والانتخابات النزيهة، بعد تتالي هزائمها في آخر ثلاث محطّات انتخابية في الإقليم. والواضح أنه ثمّة من يدفع العراق صوب مزيد من المستنقعات، فبعد التسبّب بانسحاب الصدريين من البرلمان العراقي، وهم الحاصلون على 73 مقعداً نيابياً، وإطاحة ممثل المكوّن السني ورئيس البرلمان، محمّد الحلبوسي، جاء الدور هذه المرّة على الحزب الديمقراطي الكردستاني، لحصاره عبر قراراتٍ ارتجاليةٍ من المحكمة التي أسّسها بول بريمر بين عامي 2003 – 2005، وسُميت فيما بعد الاتحادية، لتكون حصّة الإقليم من الممارسات الجديدة إجهاض قوانين الانتخابات البرلمانية وحصة الكوتا للمسيحيين والتركمان في برلمان كردستان.
سابقاً، دخل الثلاثي المخصّص بالحصار (مقتدى الصدر، محمد الحلبوسي، مسعود البارزاني) تحالفاً بعد الانتخابات البرلمانية عام 2022 وإذا علمنا أن المُحرّك الرئيسي لكل تلك المشكلات هو جهات ضمن قوى الإطار التنسيقي، فالواضح أن الهدف الأساس إبعاد القوى الكردية والسنية والشيعية الرافضة هيمنة طهران على العراق، ويتم ذلك عبر “الإطار التنسيقي”. وشكل انسحاب الصدريين من العملية السياسية انفراطاً في عقد الشراكة الثلاثية، ليضطرّ الديمقراطي الكردستاني للانضمام إلى “الإطار التنسيقي” بعد حصوله على تعهّدات واتفاقيات من قادة الإطار حول الشراكة السياسية وحماية الدستور والاقليم. لكنّ قسما من قادة “الإطار”، ورغم كل ما يشهده من تصارع أطرافه الداخلية، انقلبوا على الشراكة المفترضة في العراق، و”حنثوا” بوعودهم في اتفاق إدارة الدولة الموقّع مع “الديمقراطي الكردستاني”، ولم يتعامل مع القوى الكردية والسنّية كشريك حقيقي، وهي القضية التي تُعاد دوماً منذ 2003، ما يعني فضّ الشراكة وإنهاء العمل باتفاق إدارة الدولة، ومع بقاء الاتحاد الوطني الكردستاني ضمن ذلك التحالف، سيكون من الطبيعي إثارة الاستفهامات الكثيرة.

أي خطوة سياسية مقبلة لن تكتمل دون حوار مع الصدر والبارزاني لرمزيتهما السياسية بين الجمهور

علماً أن قانون الانتخابات المعمول به في إقليم كردستان العراق، والقانون الساري المتّبع بعد اقتراع المحافظات العراقية عليه سابقاً، يُعتبران من ركائز الدفع نحو الاستقرار ومنع التفرّد بالقرارات، والعجيب أن تتقاطع رغبة قادة كرد وشيعة ضمن “الإطار التنسيقي” في تغيير القوانين الانتخابية في الإقليم والعراق، والغالبية العظمى من مكوّنات ذلك الإطار هم من الموالين والمقرّبين والمحسوبين على إيران، فهل من شكوك حول إصدار القرارات العابرة للحدود؟ مثل الانسحاب السابق للصدريين من العملية السياسية، والتلويح بمقاطعة “الديمقراطي الكردستاني” الانتخابات البرلمانية في الإقليم، والذي سيعني حتماً الانسحاب من العملية السياسية في العراق، وحينها فإن أي خطوة سياسية مقبلة لن تكتمل من دون حوار مع الصدر والبارزاني لرمزيتهما السياسية بين الجمهور، وحجم النفوذ الشعبي لهما، وسيطرتهما على مناطق جغرافية، عدا عن نفوذهما ضمن القطاعات العسكرية والأمنية.

الواضح وجود رغبة عارمة من قبل أطراف ضمن الإطار التنسيقي في إعادة تفكيك العراق والإقليم وتركيبهما بشكل طائفي جديد

والواضح وجود رغبة عارمة من أطرافٍ ضمن الإطار التنسيقي في إعادة تفكيك العراق والإقليم وتركيبهما بشكل طائفي جديد، وهو ما يتم عبر خطّين متوازيين. الأول: خاص بإقليم كردستان، كبنية المشكلات من منع تصدير النفط، إلى قطع الرواتب عن الإقليم، وصولاً إلى توطين الرواتب في مصارف بغداد، وانتهاءً، حالياً، بقوانين انتخابية تجرّد الإقليم من صلاحياته الدستورية، وتقويض النظام الديمقراطي عبر إلغاء حصة الكوتا، لتقزيم وتحجيم سلطة البارتي الذي يرفض تبعيته لدول إقليمية، وإدخال الإقليم في دوّامة عنيفة من الصراع والحصار والضغط لتحجيم الإقليم وصلاحياته، وليس مستبعداً وصوله إلى إلغائه. وهو ما يتطلب تكثيف السلطة بيد أطرافٍ مواليةٍ ل”الإطار” وسياساته، خصوصاً من الجانب العسكري والمالي والأمني، واستنزاف الاقتصاديات المحلية في الإقليم، وتأليب الموظفين على الحكومة عبر قطع ميزانية الإقليم، والتنصّل من الوعود كما حصل حالياً، حيث كان من المقرّر، منذ سنة ونصف، تشكيل محكمة دستورية عليا في البلاد، عوضاً عن المحكمة الحالية المسيسة، وتشريع قانون للنفط والغاز خلال ستة أشهر، لكن كل تلك الوعود تم نقضها عبر التحايل والمماطلة والتسويفات. الثاني: خاصّ بالمشكلات والخروقات في الدستور العراقي، حيث يسعى رئيس كتلة دولة القانون، نوري المالكي، ضمن الإطار التنسيقي، لفرض نوع مغاير للأنظمة الانتخابية للدورة البرلمانية المقبلة، خصوصاً أن النظام الحالي المعمول به استفاد منه كثيراً رئيس الوزراء الحالي، محمّد شياع السوداني، وهو ما لا يرغب به قسم من قادة “الإطار”، مقابل اعتراض قسم آخر، مثل رئيس تيار الحكمة عمّار الحكيم، على ما يطرحه المالكي الساعي إلى فرض خطط انتخابية تقود إلى إسقاط الحكومة الحالية في بغداد، وعودة شخصيات قديمة لإدارة البلاد من جديد.

منذ أكثر من 20 سنة لا تزال الدولة مغيبة ومقزّمة، وغالبية الطبقة السياسية الحالية هي المدماك الأساسي في ذلك كله

ويبدو أن الأمور تتّجه هذه المرّة صوب منعطف أكثر حدّية وسلبية، إذ هي مواجهة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وعملية الاستقواء أخيراً بالإطار التنسيقي و”المحكمة الاتحادية” ستقود الإقليم صوب نفقٍ مظلمٍ جدّاً، وهي أيضاً مواجهة بين أطراف السلطة الشيعية مباشرة. وما يمنح رمزية مخيفة لتلك المواجهات أن نظام المحاصصة التي وضعتها تلك الأطراف، الشيعية، عبر الدستور ودعمتها وحمتها وطوّرتها، هي نفسها ما عادت قادرةً على المضي والاستمرار بها معاً بخط واحد، فما يحصل ليس انسداداً سياسياً، بل إعلاناً شبه نهائي لفشل نوعية السلطة العراقية القائمة على دستورٍ لا يحمي العملية السياسية المستندة للتوافقية والمحاصصة المتبعة منذ 2005، خصوصاً أن القواعد الاجتماعية في المحافظات العراقية لم تعد تقبل أن تكون أصواتهم مجرّد مؤشّر إلى حجم أوزان الأطراف السياسية لتقاسم النفوذ.
رغم تعدّد تسميات الخلافات وأنواعها، لكنها كلها تعود إلى منبع واحد، وهو غياب سلطة الدولة وأهميتها بالمفهوم السياسي والإداري منذ بداية تشكيل العراق بالشكل الراهن منذ 2003 بعد إسقاط النظام العراقي القائم منذ 1968، والذي أثبت فشل النموذجيْن، السابق والحالي، للحكم، فلا المركزية الشديدة قدّمت حلولاً خارج سفك الدماء، ولا النموذج الاتحادي غير المعمّم على العراق كله، أثبت نجاحه. وفي وقتٍ تعاني فيه محافظات عراقية غنية جداً بمواردها، وفقيرة بخدماتها وحياتها السياسية والاقتصادية، فإن تطوّر إقليم كردستان جاء نتيجة للسياسات العامّة المتبعة، وتطبيق النظام الفيدرالي في علاقته مع المركز. والمشكلة الأخرى التي تسبّبت بالكم الضخم من المشكلات، هي المحاصصة كبنية أساسية لقيام أي حكومة، وهو ما أجهض جذرياً أي أملٍ للدولة، ليكون عوضاً عنها صراع المكوّنات، وصراع أطراف التكتلات السياسية، وذلك كله في غياب الدولة عن المركز، والرغبة في جرّ الإقليم أيضاً إلى مفهوم اللاسلطة، وتحويله إلى ساحة حربٍ بين الأطراف السياسية فيها. ومنذ أكثر من 20 سنة لا تزال الدولة مغيّبة ومقزّمة، وغالبية الطبقة السياسية الحالية هي المدماك الأساسي في ذلك كله.