ناجون سوريّون يروون مأساتهم لـ”النهار العربي”: الآتي فوق طاقتنا فمن ينجدنا؟  المصدر: النهار العربي دمشق-طارق علي

خيام لإيواء المنكوبين في سوريا (أ ف ب)
“فجأة بدأ يهتز المنزل بطريقة مرعبة، ما هي إلا ثوانٍ حتى بدأ كل شيء ينهار فوق رؤوسنا، لم نكن نملك الوقت لاستيعاب ما يحصل، فكيف لنفكر ونتصرف ونهرع إلى الخارج؟ أساساً لم يكن هناك وقت، كل شيء حدث في طرفة عين”، تقول مريم طيبة الناجية من الزلزال الذي ضرب سوريا لـ”النهار العربي”.
طيبة ابنة مدينة جبلة ظلت عالقة تحت الأنقاض لساعات قبل أن تتمكن فرق الإنقاذ المحلية من الوصول إليها، “بدا كل شيء مظلماً، وغريباً، وغير منطقي، تملكني الخوف وبدأ ينهش جسدي، كنت أشعر ببرودة غير مسبوقة، وبثقل هائل على ساقي وصدري، ربما تطلب إخراجي نحو 6 ساعات، لكنني حسبتها سنوات طويلة، مررت بكل مراحل الخوف خلالها، وصار شريط حياتي يمرّ أمامي مستذكرةً كل الناس الذين أحبهم. في لحظات كثيرة اعتقدت أنّها النهاية وأنني لن أرى النور مجدداً، وما زاد في معاناتي هو عدم تمكني من الصراخ رغم محاولاتي الكثيرة، شيء ما شلّ حنجرتي، ربما هو الفزع الشديد، ليس في كل يوم يمرّ الإنسان عبر الموت هكذا، ولا في كل يوم يحدث زلزال”.
طيبة التي أُخرجت بصعوبة كما تصف من تحت الركام تقول إنّ حياة جديدة كتبت لها، “كنت أسمع أصوات الناس تقترب شيئاً فشيئاً، وهنا كان قد بدأ الأمل يعود لي، وبلحظة شعرت أنني أستعيد صوتي وقوتي، الحطام فوقي كان قد أدى إلى كسر في ساقي ورضوض في بقية جسمي، لكنّ سعادتي كانت تتفوق على كل مشاعر الألم لحظة إخراجي على أيدي أولئك الأبطال الذين لم ييأسوا من الوصول إلي وإلى المئات غيري”.
دمار هائل في بلدة جبلة السورية. (أ ف ب)
تضيف: “أنا الآن في منزل أقربائي في دمشق، ولكن لا أدري لماذا أتوهم كل قليل بحدوث هزة أرضية وبشكل متواتر وغريب من دون أن يشعر من حولي بها، أتكور على نفسي وأبدأ بالبكاء، لا أدري إلى متى سترافقني هذه الحالة، ما مررت به يصعب على إنسان آخر أن يشعر به، وأتمنى ألا يذيق الله ذلك الشعور لأحد، أعتقد أنني بحاجة لعلاج نفسي في المستقبل”.
النّاجي الوحيد من أسرته
“كنت نائماً، فجأة شعرت بدوار شديد وبأنّ كل شيء في المنزل يتحرك، لم يتسنَّ لي أن أغادر المنزل أو أهرب منه، وما هي إلا ثوان حتى صرت تحت الركام، 14 ساعة وأنا أنتظر إنقاذي”، بهذه العبارات يشرح منير الصباغ ما عاناه خلال وجوده تحت حطام منزله بفعل الزلزال في مدينة اللاذقية الساحلية.
ويتابع: “لم يكن لديّ أدنى أمل بالخروج حياً، والله لن يصدق إنسان مدى صعوبة تلك اللحظات التي تكون فيها عالقاً في العتمة من دون مغيث ومن دون أن تملك من أمرك شيئاً، والأقسى هو أنك لا تعرف عن بقية أهل بيتك شيئاً”. منير الذي لا يزال في المستشفى للعلاج من الكدمات والكسور في جسده لا يعرف حتى الآن شيئاً عن مصير أهله، وسط معلومات ترجح مقتلهم جميعاً بعد مرور هذه الأيام ما بعد الزلزال وغياب الأخبار عنهم.
انتشلوني بسرعة
“كنا لم ننم بعد، لحظة وقوع الزلزال، أنا وإخوتي، خرجنا فوراً من المنزل وبدأنا نصرخ للجيران لنخرج جميعاً من البناء، لكن حجراً كبيراً سقط على ظهري وبعدها بدأت تتهاوى الحجار تباعاً، بقدرة عجيبة تمكن أهلي والجوار من سحبي والخروج من المبنى الذي انهار على دفعات”، هذا ما قالته علياء نصور عن لحظات الكارثة، ورغم أنّ حظها كان أفضل من آلاف آخرين، إلا أنّها بدورها لقيت نصيبها من الإصابات الجسدية التي استدعت بقاءها في المستشفى.
تحت خمس طبقات
 “رجّ المنزل بأكمله، استيقظنا أنا وزوجي ونحن عجوزان نسكن وحدنا، حاولنا الخروج من البناء لكن الدرج تهدم ونحن ننزل عليه، خمس طبقات انهارت بأكملها وأنا وزوجي عالقان تحت حجارة كثيرة، كان الزلزال عنيفاً للغاية، ظللنا عشر ساعات تحت الركام حتى انتُشلنا مع جروح عديدة، ولحسن الحظ ليست خطيرة”، تقول السيدة الستينية أم علي من اللاذقية لـ”النهار العربي”، وهي ناجية أخرى مع زوجها من الكارثة التي نكبت البلاد.
ضياع جنى العمر
الموظف هشام سلامة فقد منزله في حلب، يقول: “نجونا بأعجوبة، ولكن ماذا بعد؟ ماذا حين تشاهد جنى عمرك قد انهار وصار كتلاً من الركام؟ يعلم الله ماذا يفعل السوري حتى يمتلك منزلاً في هذه البلاد، ثم فجأة يصير أثراً بعد عين، نجوت أنا وأسرتي وانهار بناؤنا بعد خروجنا منه، المشهد يقطع القلب، نحن الآن في أحد مراكز الإيواء في حلب، الحمد لله على كل شيء”.
ومثل حال هشام حال المهندسة هناء زيتون التي تبكي أطلال منزلها المهدم في حلب، “من كان يتوقع هذه الكارثة؟ 12 عاماً من الحرب ولم يحصل كما حصل في هذه الـ40 ثانية، قرش فوق قرش جمعت ثمن منزلي، بعت سيارتي وكثفت عملي واستدنت حتى تمكنت من شرائه قبل الحرب، وبلحظات قليلة صار غباراً، أنا الآن عند أقربائي، أبكي حالي ومدينتي وبلادي المنكوبة، هل سيتم تعويضنا؟ هل سنُمنح مساكن بديلة؟ وصلت أموال مساعدات تكفي لإعمار مدن كاملة، هل ستُسرق أم ستذهب إلينا نحن المنكوبين؟”. تتساءل زيتون بحرقة، مشيرةً في الوقت عينه إلى أنّ خسارة منزل ليست بحجم خسارة إنسان من أولئك الضحايا، ولكنها تقول: “لكل إنسان طاقة على التحمل، وكل إنسان لديه ما يخسره فيدميه ويجعله عاجزاً عن الحراك، نعم أنا وأهلي بخير، لكن إلى متى سنظلّ عند أقاربنا؟ وبعدها أين سنذهب؟ لا قدرة لنا على استئجار منزل، هل ستنتهي بنا الحال كمشردين أو نازحين إلى مراكز الإيواء ونحن في عزّ الحرب لم ننزح من منازلنا؟”.
لم يمت أولادي!
في معرض حديث “النهار العربي” مع ناجين من الفاجعة، كان مؤيد سلطان الذي فقد أولاده ونجا هو وزوجته يقول: “فليكن الله بعوننا وعون الناس، فقدنا أولادنا، فقدت ثلاثة من أولادي في الزلزال، وظلت زوجتي حيّة مع كسور صعبة في كل جسدها، أنا كنت خارج المنزل لحظة الفاجعة، منزلي في منطقة الشاليهات في اللاذقية، كنت في طريق عودتي إلى منزلي حين بدأت ترتج الأرض في الطريق، تلقيت اتصالاً من الجوار أبلغوني أنّ بنائي قد هبط بالكامل، وأنّ زوجتي وأولادي تحته، هرعت مثل المجنون، وساعدت الهلال الأحمر والمتطوعين في النبش والبحث، ولكن كان ما كان للأسف”.
مؤيد الذي يبلغ من العمر 31 عاماً رغم أنّه دفن أولاده الثلاثة، وراح يداوي جراح زوجته الجسدية والنفسية، يقول: “ماذا فعلنا حتى تكون هذه عقوبتنا في الحياة؟ حتى اللحظة لا أصدق ما جرى، لا لم يمت أطفالي، أنا أراهم وأحادثهم في الليل، وحين خروج زوجتي من المستشفى سنأخذهم لحدائق الألعاب، وسأشتري لهم أكلاتهم المفضلة”.
تبدو مشاعر مؤيد مختلطة ومتباينة للغاية، ويبدو واضحاً أنّه يعيش حالة من التخبط والإنكار، فليس ثمة مصيبة أعظم من أن يدفن والدٌ أولاده، ولعلّ الحديث في هذا الإطار لا ينتهي، فهناك 300 ألف شخص تضرروا وهُجروا بفعل الزلزال، وأكثر من 3000 قتيل حتى الآن، في نكبة تجدد على السوريين مواجعهم التي اعتقدوا أنّها انتهت بنهاية الصدامات العسكرية المباشرة، إلا أنّه كان للطبيعة رأي آخر، وبقي لهم بعدها ألم الفقد وحزن الغياب واشتياق الموتى وأنين القهر… وإن كان عام 2011 (بداية الحرب) عاماً لا يُنسى، فلربما قد تنسيهم إياه فاجعة 2023 وتصبح تاريخاً جديداً يبدأ منه تدوين مصيبة جيل كُتب القهر عليه.