عندما تعمل المرأة و”يسند زوجها الحيط”… التنمّر يلاحق عائلات سوريّة المصدر: النهار العربي دمشق-طارق علي
صار عمل النساء ضرورياً في سوريا بسبب الظروف المعيشية الصعبة.
كما في كل سنة، يحلّ اليوم العالمي للمرأة والنساء العربيات في دول عربية عدة يعانين في سبيل تحصيل الحد الأدنى من حقوقهنّ. “النهار العربي” يسلّط الضوء على جوانب من هذه المعاناة في سلسلة تقارير.
“منذ عام ونصف العام وأنا أعمل خارج المنزل لأعيل زوجي وأسرتي، مررنا بظروف قاسية لا يعلم بها إلا الله”، تقول أم مازن المنحدرة من مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية خلال حديثها مع “النهار العربي”.
ظروف قاهرة
أم مازن التي تعمل لدى أسرة دمشقية بدوام جزئي وتلقى على كاهلها مسؤولية تنظيف المنزل وإعداد الطعام يومياً، تقول إنّها تتقاضى مرتباً شهرياً 400 ألف ليرة سورية (54 دولاراً أميركياً)، مؤكدةً أنّ هذا المبلغ يبدو جيداً جداً مقارنة بمرتبات الموظفين السوريين، ولكنّه في الواقع لا يكفي شيئاً في ظل الظروف الاقتصادية القاهرة التي تعيشها سوريا.
لا تخفي أم مازن التي بلغت عامها السادس والخمسين انزعاجها من طبيعة العمل إلى حد ما، مستذكرةً آلاماً جمّة تعانيها عبر أوجاع مزمنة ومستمرة في رقبتها، إثر إصابتها في وقت سابق بانزلاق غضروفي (ديسك)، ولكنّها رغم ذلك تؤكد حاجتها لذلك العمل، فهي أم لفتاتين تدرسان في الجامعة وتحتاجان مصاريف دورية.
زوجها أبو مازن موظف متقاعد يتقاضى مرتباً تقاعدياً يبلغ 104 آلاف ليرة سورية (14 دولاراً)، “بعد تقاعد أبو مازن لم يتمكن من إيجاد عمل آخر، وقد بلغ عامه السادس والستين، وهو يعاني مشكلة قلبية حساسة تحول دون تمكنه من إنجاز أعمال مرهقة، ولولا ذلك لكان عمل حمّالاً أو أي عمل آخر مجهد، ولكنّ ذلك مستحيل، لذا عليّ أنا أن أقوم بواجباتي وأقوم بمصاريف المنزل”.
تتابع أم مازن أنّ زوجها رغم ذلك بحث مراراً عن أعمال مكتبية يقوم بها ولكن بلا جدوى، فعامل العمر حال دون توظيفه في كل مرة.
عاملات وعاملون في معمل خياطة.
ولا تنسى السيدة المكافحة أن تتحدث بمرارة عن نظرة المجتمع إليها وإلى عائلتها بعين العيب، باعتبار أنّ بيئتها تحتم فرضية “قوامة الرجال”، بينما هي التي تعمل وتصرف على المنزل.
تقول: “نعاني من نظرات مريرة من الناس، ونسمع كلاماً قاسياً أحياناً، ولكن ما باليد حيلة”، وتضيف: “قبل الأزمة حين كان زوجي موظفاً كنت أنا سيدة منزل يحسدني الناس، وكان مرتبه عالياً ويكفينا ويزيد وكنا نعيش في بحبوحة، ولكنّ الحرب غيرت الحال وعصفت بنا وبالسوريين، وإلّا ما الذي يجبرني لأعمل خارج المنزل، ويقال في كل مرة: انظروا زوجته تصرف عليه”.
زوجي يسند الحائط
“زوجي، زوجي يسند الحائط في المنزل”، تبتسم سميرة حمادة وهي تتحدث عن عملها خارج المنزل وتتابع حديثها بتهكم: “زوجي يريد أن يعمل وزيراً، لا أقلّ، أنا أقول له هذا كل يوم، وهو لا يبالي، نعم فهمنا أنّه خريج تجارة واقتصاد بمرتبة ممتاز، ولا يعمل أقل من مدير بنك، وجامعيون في بلدنا يعملون في مهن لا تناسب مستواهم التعليمي، ماذا أفعل؟ ماذا بشأن طفلتنا الصغيرة؟”.
سميرة تعمل موظفة استقبال في إحدى شركات العاصمة دمشق وتتقاضى مرتباً يبلغ 350 ألف ليرة سورية (47 دولاراً)، تتدارك وتقول: “ربما زوجي معه حق، لماذا أفنى سنوات عمره في الدراسة ما دام لن يتوظف بشهادته؟ أنا مغتاظة بشدة من كل شيء، ولست راضية عن كونه بلا عمل، ولكن في الوقت نفسه من حقه أن يعمل بشهادته”.
وتتابع: “هذا بلد ليس عليك فيه أن تدرس، ولا أن تجتهد، عليك أن تكون لصاً ربما، أو أن تهاجر، نعم أن تهاجر ولا غير”. تبدو مشاعر سميرة مختلطة حيال زوجها، فهي لا تدري إن كانت حزينة على حاله واكتئابه أم حزينة على حالها لما تبذله من جهد في العمل خارج المنزل.
والأسوأ – بحسبها – هو ضغوط أهلها، “يقولون لي زوجناك ليصرف عليك وتعيشي أميرة لديه، لا لتصرفي أنت عليه، طلقيه!”. وتكمل: “ببساطة يريدون أن أطلقه! أهلي من تلك النوعية التي تؤمن تمام الإيمان بأنّ مهمة الرجل القيام بمنزله، وليسوا مستعدين لتفهم مطبات الحياة”.
عند سميرة، المشكلة لا تقتصر على أهلها، بل تلك نظرة المجتمع بأكمله، الجميع يلومها على أنّها تصرف على منزلها: “بأفضل الحالات من يتفهم حالنا يطرح مفهوم التشاركية في تأمين المصاريف، أي أعمل أنا ويعمل هو، أما أن أعمل أنا وهو يجلس في المنزل، فهذا ما يعرضنا لانتقادات مجتمعية شتى”.
“زوجته تصرف عليه”
يقضي أبو علي نهاره سيراً على الأقدام بين أحياء دمشق، من الشيخ سعد إلى المزة وغيرها بحثاً عن عمل مناسب. يسأل بائع الفلافل، وصاحب محل بيع الملابس، ومحل الألبان، والسوبر ماركت، وهكذا تتداور أيامه، تارةً يعثر على عمل دخله لا يتناسب بأي شكل مع الحال المعيشية، وغالباً لا يعثر على عمل. هو خريج كلية الآداب واستعصت عليه ظروف الحياة، فلا عمل بشهادته ولا فرص عملٍ في البلاد أصلاً.
نسبة البطالة في سوريا من الأعلى عربياً.
“عملت آخر مرة في سوبرماركت بمرتب 125 ألف ليرة (17 دولاراً)، وفي نهاية الشهر الأول قبضت واشتريت حفاضات وحليباً لطفلي وطار الراتب، هذه حالنا، لماذا درسنا وشقينا؟ لولا أنّ زوجتي تعمل أيضاً في شركة استيراد وتصدير وبمرتب جيد لما كنا استطعنا الاستمرار”.
يعيش أبو علي صراعاً داخلياً مريراً حيال عمل زوجته في الخارج وبقائه هو دون عمل: “انظروا زوجته تصرف عليه! هذا أقل ما يتناهى إلى سمعي من المحيط، الجميع ينظرون بانتقاص إلى رجولتي، حتى أهلها يعيروننا، أبوها قال لي مرة: ما بتستحي ع حالك مرتك عم تصرف عليك، ماذا أفعل؟ نعم تصرف عليّ، ولكن هل ذلك بإرادتي؟”.
مجتمع لا يرحم
ليس خافياً على أحد أنّ الحال في سوريا بلغت قاعاً باتت النجاة منه تتطلب أكثر من طوق إنقاذ، وأكثر من حلول إسعافية وطارئة، بل خطة استراتيجية محكمة تتفوق على معاني الحصار والقضايا القومية والشعارات الرنانة.
البلد بحاجة لانتشال كامل وفق آليات تضمن استعادة كل مواطن كرامته المهدورة، بدءاً بطوابير الخبز وليس انتهاءً بطوابير البنزين.
ومن الجيد في مكان أنّ المجتمع السوري بشكله المتبلور عشية الحرب كان منفتحاً على عمل النساء في الخارج، فهذه بحدّ ذاتها ليست نقطة خلافيةً وجدلية في الشأن العملي العام، ولكن ما هو جدلي حتى اليوم تلك الجزئية المتعلقة بعمل الزوجات بينما أزواجهنّ جليسو المنازل، فهي كفيلة بإثارة عاصفة من التنمر والإساءة وسوء الظن.
“النهار العربي” رصد الكثير من الحالات لزوجات يعملن في الخارج وأزواجهنّ في المنازل بلا عمل، لأسباب وظروف شتى. ورغم ما قد تعانيه المرأة من ضغوط في الخارج تصل أحياناً إلى حدّ التحرش في بعض المواقف التي قد تبدو قليلة نسبياً، ولكنّها الحاجة لدخل يعيل الأسر في ظل الظروف القاهرة.
بيد أنّ المشكلة تكمن في “مجتمع لا يرحم” كما تقول عاملات كثيرات، بعضهنّ أخذن دور الزوج كاملاً، وتالياً في ما يترتب على ذلك من آثار نفسية على الزوج نفسه وعلى الأطفال لاحقاً، في واقع غير سليم أساساً، لا يرحم ولا يدع للرحمة مكاناً.
أحياناً هذه الظروف تقود إلى الطلاق، وحدث ذلك كثيراً، فيما لا تزال عائلات أخرى صامدة، لا ذنب لها سوى أنّها كانت شاهدةً على انهيار بلد كان جميلاً ذات يوم، وحتى يعود البلد إلى حاله في زمن غير معلوم، يبقى أنّ الحياة تزداد صعوبة يوماً تلو آخر، فتقسو هي والمجتمع والأهل على تلك الأسر التي تتولى فيها النساء مسؤولية “فتح المنازل”.