الحرب السورية… اثنا عشر عاماً وما يزال الفيل تحت السجادة! نورث برس
القامشلي – نورث برس
بادئ ذي بدء لعل فضولك استدرجك بعدما لفت العنوان انتباهك أن تسبر أغوار هذا التقرير، على أننا لم نتعمد الأسلوب الغرائبي أو العجائبي في صياغته للترويج بل الأمر أعمق من ذلك، وهو حقيقة أن الفيل لا يزال مختبئاً بانتظار من يجلو عنه السجادة على الرغم من أن الجميع يراه، فعادة ما يستخدم هذا التركيب للدلالة على عظمة أمر الفيل “التمييز العنصري الطائفي” الذي يريد أحدهم إخفاءه تحت السجاد عبثاً.
لربما يقول قائل إنه كثر ما تداول الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة التمييز العنصري الطائفي على مدار اثني عشر عاماً من عمر الحرب السورية، لوهلة يبدو هذا صحيحاً، ولكنه لم يعدو في أغلب الأحيان تبادل للسباب والشتائم أو مهاترات بين محللين تستضيفهما قناة تلفزيونية؛ لتزيد من الشرخ أمتاراً وفي الصدع شقوقاً، دون مقاربة واقعية أو استشراف لما ستؤول إليه أوضاعنا نحن السوريين مع الخطاب المشبع كراهية.
تحاول هذه القراءة مع دخول الحرب السورية عامها الثالث عشر مراجعة الممارسات التمييزية القائمة على العنصرية الطائفية من قِبل الفواعل السورية (حكومة ومعارضات)، الناتجة عن الخطاب النخبوي من خلال تصريحات رسمية وسياسية عبر وسائل إعلامية وانعكاسه على الخطاب الشعبوي، واستقراء التشظي الهوياتي الطائفي بين عامة السوريين بعد عقود من الادعاء بوجود أطياف سورية لا طوائف دينية مذهبية، وما آل هذا الصراع الذي أفرغ حمولته أخيرًا في الشمال السوري، حيث أوجدوا تمييزًا عنصريًا عرقيًا قوميًا من نوع جديد.
“الحكومة السورية.. تكتيكات التطييف”
بداية في حال إن سلمنا جدلًا أن ما وصلت إليها الأزمة السورية من عنصرية طائفية، هي جزء متعمَّد من استراتيجية “فرّق تَسُد”، التي تعتمدها الحكومة السورية وتهدف إلى إذكاء التوترات الطائفية من أجل شق صفوف المعارضات، والحصول على دعم الأقليات الدينية التي تمثل مجتمعة ما يصل إلى ثلث الشعب السوري، والتي غالباً ما يُقدَّر أن التركيبة السكانية في سوريا تتألف من 64٪ من السنة، و12٪ من العلويين، و9٪ مسيحيين، و3٪ دروز، و1٪ شيعة، و1٪ طوائف الأخرى.
عمدت الحكومة السورية بناء على ذلك إلى استهداف مدنيين “سنّة” في المناطق المتنوعة دينيًا بغية ترحيلهم أو تهجيرهم ودفعهم إلى العنف والتطرف، بالمقابل سلّحت مجموعات من الطائفة “العلوية”، والتي تتحدث تقارير عن تورطها في عمليات قتل في مناطق عديدة في سوريا منذ ألفين وأحد عشر.
بالتزامن مع ذلك، حينما كانت الأزمة السورية في مهدها في شهر آذار/ مارس عام ألفين وأحد عشر، أي بعد أيام قلائل من بدء الاحتجاجات، أطلقت الحكومة سراح مئتي سجين من “متشددين إسلاميين سنة” من سجن صيدنايا سيئ الصيت، وهي الخطوة التي سرّعت من تواتر “الجهادية والطائفية” في صفوف قوات المعارضة منذ بداياتها.
وسرعان ما انخرط معظم هؤلاء الذين أُطلق سراحهم في عمليات تشكيل أو انضمام إلى بعض الجماعات الأكثر عنفًا وطائفية مثل “جبهة النصرة”، فرع تنظيم القاعدة في سوريا حينها، أو أحرار الشام وهي جماعة سلفية تتبنى خطابًا طائفيًا ولا ترتدع عن انتهاج السلوك العنفي في مقاربته لبقية الطوائف في الجغرافية السورية.
فيما بعد، عملت ھذه الفصائل الجهادية في صیف ألفين وثلاثة عشر علی الاندماج فيما يبنها لتشكل غرف عمليات وتجتاح مناطق ذات غالبية علوية بريف اللاذقیة شمال غربي سوریا، مما أسفر عن مقتل مئة وتسعين مدنیًا علويًا بحسب تقديرات وثقتها منظمة ھیومن رایتس ووتش الحقوقية، لتعزز –بطبيعة الحال- ھذه النوعية من العمليات من الدعم العلوي للحكومة السورية والاصطفاف وراءها.
“المعارضات… تطويف التطييف”
الواقعة الأخيرة أبرزت أيضًا وبشكل جلي حصة المعارضة السورية من المسؤولية في دفع الأزمة السورية نحو تمييز عنصري طائفي، وعليه فإن غض المعارضة مثل المجلس الوطني السوري أو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عن التطرف المتنامي، الذي أخذ منحى متصاعدًا بين مقاتلي فصائلها، قد طال وامتد حتى العام ألفين وأربعة عشر مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؛ ليتماهى خطابهما فيما بعد تجاه الحكومة السورية أو الكرد على حد سواء.
حينئذٍ كان الوقت قد تأخر جدًا، خاصة بعد هيمنة الجهاديين الإسلاميين بشكل واضح على مفاصل فصائل المعارضة المقاتلة على الأرض، وارتكابها ممارسات عنفية على أساس تمييز عنصري طائفي، وصلت إلى حد عُرفوا بـ”أكلة الأكباد” إثر الحادثة الشهيرة عام ألفين وثلاثة عشر، ولعل النشاط التطرفي هذا قد تكون له رواسب مجتمعية أو محلية قلما ظهر على السطح، إلا أنه في الوقت نفسه يأتي من خلفية تنافس جيو سياسي أكبر يضع السعودية في مواجهة إيران مباشرة.
تدخّل الأخيرة في مرحلة مبكرة من الصراع في سوريا، كان بداية عن طريق تقديم ما يقرب من أربعة مليارات دولار من المساعدات الاقتصادية للحكومة السورية، وثانيًا، وهو الأهم والذي صعّد من وتيرة التمييز العنصري العنفي الطائفي، بإرسال ثلاثة آلاف عنصر من الحرس الثوري الإيراني، وأيضًا من خلال جلب خمسة عشر ألف عنصر من مقاتلين شيعة من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان لرفد القوات الحكومية السورية بالكادر البشري.
أجج التوافد المستمر والحضور الهائل لمقاتلين شيعة أجانب في سوريا مشاعر الامتعاض السنّي المحلي، وحفّز دول الخليج السنّية على معارضة النفوذ الإيراني المتنامي سريعًا في سوريا؛ لتبدأ رحلة التمويل السخي من قبل رياض والدوحة للعديد من الجماعات الجهادية المتطرفة. وأصبح فيما بعد فصيل “جيش الإسلام” الحليف المقرب للرياض، إلا أن المحاولات الحثيثة لنشر الوهابية وخطابها الطائفي ساهم في تنفير السوريين، بما فيهم السنة أنفسهم.
“تقعيد التمييز العنصري الطائفي”
بحسب استطلاع أجرته منظمة “اليوم التالي” غير الحكومية استهدفت أكثر من ألفين وخمسمئة سوري من مختلف الانتماءات الدينية والسياسية والاجتماعية، وسلطت الضوء فيه على حجم التحديات التي تنتظر سوريا في حال توقف الحرب فيها، أكد أن ثمّة خطر متنام يكمن في توجهات التمييز العنصري الطائفي العنفي يتجذر في المجتمع بطرق وأساليب من الصعوبة بمكان التغلب عليها في المستقبل القريب أو حتى البعيد.
وفي وقت أشار فيه استطلاع المنظمة إلى أن غالبية السوريين ينظرون بالفعل إلى المعضلة الطائفية في البلاد على أنها ذات جذور سياسية حديثة ولا تأتي من أحقاد متوارثة، الأمر الذي يفتح الباب فيما بعد نظريًا للحد من تلك التوترات العنصرية الطائفية الرائجة بمجرد معالجة جذور الصراع، إلا أنه من جهة أخرى كشف أيضًا ذهاب سوريا مستقبلًا نحو مصير مقلق، ما يجعل الباب مشرعًا أمام تقعيد الانقسامات التمييزية العنصرية الطائفية ومأسستها.
أكثر ما يستدعي الوقوف عنده أن اثنين وسبعين في المئة من السوريين أفادوا بأنهم وقعوا ضحايا للتمييز العنصري الطائفي، وهي نسبة عالية جدًا بما ينبئ بأن هذه المشكلة، إن لم يتم معالجتها بشكل عاجل، قد تؤسس لعقود مظلمة من الكراهية والعداوة تجاه “الآخر” ليس من طائفة محددة فقط بل “الآخر” الديني والعرقي والسياسي، حتى يمكننا القول “الآخر” من المذهب الواحد، ولعل التباين فيما بين المذهب الواحد إن كانت سنية أو شيعية أو علوية، أبرز مثال على ذلك.
“إعلام الأطياف أم الطوائف”
ينبري الإعلام السوري (حكومة ومعارضات) ليلَ نهارَ؛ ليعلن نفسه بأنه لسان حال الشعب السوري بكل أطيافه، إلا أن الواقع يجافي ما يتداوله من خطاب عنصري تمييزي، ومن حيث لا يدري فإنه يفضح -لا يفصح- توجهاته وأجنداته بترسيخ التمييز بين الطوائف السورية؛ لتُترجم هذه العداوة على أرض الواقع إلى انفصام مجتمعي أكبر بينها، والتي لا تزال إلى الآن (الطوائف) تعيش جنبًا إلى جنب، ولعل إحدى الطرق البسيطة لقياس هذا الانفصام هي رصد متابعي وجمهور الوسائل الإعلامية وعلى رأسها القنوات التلفزيونية.
وتظهر دراسات أنه في الوقت الذي يشاهد فيه غالبية “العلويين” قناة “سما” الفضائية، التي تعد القناة الناطقة بلسان الحكومة السورية، فإن ما نسبته اثنين في المئة فقط من “السنة” يتابعون الفضائية ذاتها، في المقابل يقول السنّة إنهم يفضلون مشاهدة قناة “أورينت” المحسوبة على المعارضة، وهي ذات القناة التي يتابعها ما نسبته صفر فاصلة أربعة في المئة فقط من “العلويين”.
هذه النسب المئوية ليست مجرد أرقام؛ إذ تلعب وسائل الإعلام والفضائيات دورًا رئيسًا في ترسيخ السرديات ذات التمييز العنصري الطائفي وتوجيه العقل الجمعي للمجتمع، والتي ما تزال تعمل على تعميق الهوة من خلال توصيفات ينعت بها كل طرف الآخر حكومة ومعارضة: (شبيح، مرتزق، إرهابي، نصيري، مندس، خونة)، أم الكرد فلهم نصيب الأسد من الطرفين إن كان على المستوى الديني/ الطائفي (كفار، ملحدين، زنادقة…) أو المستوى العرقي/ القومي (انفصاليين، عملاء، بويجية…)، وكان بودنا ألا نذكر هذه الأمثلة؛ كيلا لا نساهم بشكل أو بآخر في إعادة إنتاجها.
كل هذا عدا عن التصريحات السياسية ذات البعد التمييزي العنصري الطائفي من مسؤولي الطرفين وعلى أعلى المستويات، وعليه يمكننا أن نعزو تصاعد مستويات العنف بناء على التمييز العنصري الطائفي إلى سببين رئيسيين، يقفان وراء هذا التدهور المتزايد في العلاقات بين الطوائف السورية، السبب الأول هو القوة المتزايدة للجماعات الجهادية المتشددة، ومن بينها ممارسات وانتهاكات فصائل المعارضة، وأيضًا فظائع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في محاولة إبادة الآخر طائفيًا بل وعرقيًا أيضًا.
وحتى مع هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في آخر جيوبه في الباغوز شرقي دير الزور عام ألفين وتسعة عشر، فإن الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا تواصل نهوضها المستمر ولو بمسميات تغيّرها بين الفينة والأخرى، مثل هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقًا، والتي لا تخفِ استعدادها لقتل مدنيين “علويين وشيعة” ثأرًا لقتل الحكومة السورية لمدنيين “سنة”.
السبب الثاني يتمثل في محاولات الحكومة السورية في إعادة التركيبة السكانية في العديد من المناطق السورية، والتي تُعرف بـ”الهندسة الديمغرافية” قد بدأت تسفر عن نتائجها، بتواطؤ تركي وإشراف روسي من خلال تسيير قوافل الباصات الخضراء من وسط سوريا (حمص وحماة) وجنوبها (ريف دمسق والغوطة)، تحمل فصائل المعارضة السنية وعوائلهم إلى شمال سوريا.
الأمر الذي لا يؤدي إلى ازدياد وتنامي أنماط التمييز العنصري الطائفي فحسب بل يصعّب أيضًا من احتمالية عودتهم، بما يؤدي إلى تغيير خريطة سوريا الديمغرافية في الواقع، وكل ذلك على حساب مئات الآلاف من الكرد بالتحديد، بعد تهجيرهم من منطقة عفرين في أقصى شمال غربي سوريا عام ألفين وثمانية عشرة، وما تلاه بعد عام واحد فقط بتهجير الكرد من منطقتي سري كانية/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض عام ألفين وتسعة عشر.
عملية إعادة ترتيب الخارطة السورية ديمغرافيًا بتواطؤ تركي – سوري (حكومة ومعارضات) وبإشراف روسي، لم ولن تتوقف عند الانقسام التمييزي العنصري الطائفي، بل يتعداه إلى تمييز عنصري عرقي قومي عربي/ كردي -ما لبث وأن ظهرت نتائجه على الأرض- بعد محاولات إنشاء ممر على طول الحدود السورية التركية من خلال تهجير الأخيرة للكرد منه، عبر الاحتلالات المتتالية منذ ألفين وثمانية عشر بدءًا من عفرين، وتاليًا عبر التهديدات المستمرة بشن عدوان جديد بين الفينة والأخرى و”على حين غرة”.
وإلى حينها نتساءل… هل سيبقى الفيل تحت السجادة؟