تتحول واشنطن إلى وسيط ضاغط ومقرر في الساحة السورية، حيث تسعى من جهة إلى الحفاظ على وجود عسكري محدود يضمن النفوذ الكردي في الشمال الشرقي من البلاد، ومن جهة أخرى إلى منع أي ترتيبات إقليمية لا تمر عبر بواباتها. وبينما تتعدد السيناريوهات المحتملة لدمج “قسد”، يبقى العامل الأميركي مفتاح التوازن أو التصعيد، في لحظة سياسية تُعيد تشكيل خريطة القوة في سوريا ما بعد الصراع.
وتشكل تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، في الحادي عشر من الشهر الجاري، نقطة محورية لفهم تطورات ملف دمج قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في الجيش السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، في ظل تعقيدات سياسية وعسكرية إقليمية ودولية.
وأكد باراك أن الولايات المتحدة لا تدعم أي شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة في سوريا، بل تؤمن بوحدة الدولة السورية وجيش موحد وحكومة واحدة، مع التأكيد على أن القرار النهائي يعود للشعب السوري. وحذر من تأخر اندماج “قسد” في الجيش السوري، مشيراً إلى أن العملية ستستغرق وقتاً بسبب غياب الثقة المتبادلة بين “قسد” والحكومة الجديدة، لكنه عبر عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق “ناجح وجميل”.
وأشار إلى أن الفيدرالية “غير ممكنة” في سوريا، وأن “قسد” ليس أمامها سوى التوجه نحو دمشق، موضحاً أن الحكومة السورية أبدت “حماسة غير مسبوقة” لدمج “قسد” ضمن مؤسسات الدولة في إطار “دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”.
اقرأ أيضاً: كيف تتقاطع مصالح أمريكا وإسرائيل والإمارات في سوريا ولبنان؟ – 963+
تحول في الاستراتيجية الأميركية
في هذا السياق، يصرّح الكاتب والباحث السياسي رستم محمود، لـ”963+” بأن الولايات المتحدة الأميركية تشهد تحولاً جذرياً في رؤيتها وأولوياتها تجاه المسألة السورية، وذلك بعد سقوط النظام وبروز سياسة الإدارة الأميركية الجديدة.
ويوضح أن واشنطن كانت تعتبر ملف محاربة الإرهاب المسألة الرئيسية والوحيدة في سوريا، ما دفعها إلى إقامة علاقات وثيقة مع قوات سوريا الديموقراطية.
ويضيف محمود أن الولايات المتحدة باتت تعتمد اليوم على استراتيجيتين سياسيتين أساسيتين؛ “أولاهما العمل على ملف السلام السوري الإسرائيلي، بهدف إعادة ترتيب المنطقة وفق رؤيتها وبما يضمن نفوذاً شبه مطلق لها، مع استبعاد أي دور صيني أو روسي وتأمين الأمان الاستراتيجي لإسرائيل وفق شروطها، بما في ذلك عدم التنازل عن الجولان وتقديم ضمانات أمنية واضحة. أما الاستراتيجية الثانية، فتتمثل في توسيع جهود محاربة الإرهاب على كامل الأراضي السورية، بعد قبول بعض الجماعات الإسلامية تقديم تعهدات بالتحول إلى قوى “معتدلة” تلتزم بقيم الدولة”.
ونفى باراك وجود أي التزام أميركي بدعم إقامة دولة كردية مستقلة لقوات سوريا الديمقراطية، موضحاً أن واشنطن ليست مدينة لهم بإنشاء دولة، بل بمسار معقول نحو حكومة جديدة.
ويبيّن محمود أن “واشنطن تسعى إلى خلق مساحة تفاهم مع النظام السوري الجديد، الأمر الذي سيجعل علاقاتها مع قسد عرضة للتراجع والتوتر، رغم ما كانت تعتبره سابقاً تحالفاً موثوقاً ودائماً”.
اقرأ أيضاً: توم باراك يبحث الملف السوري مع ترامب وروبيو – 963+
التحديات والمخاطر
تواجه عملية الدمج تحديات كبيرة، منها غياب الثقة بين دمشق و”قسد”، كما تعرقل “المماطلة” بحسب تصريحات للحكومة السورية، في تنفيذ الاتفاق تقدم الدمج، وسط مخاوف من تصعيد عسكري أو انهيار الاتفاق.
ويؤكد العميد ناجي ملاعب، الباحث في الشؤون الأمنية والمتخصص في الجيوبولتيك، أن “دمج قسد ضمن هيكل الدولة السورية يواجه تحديات أمنية وعملياتية كبيرة، أبرزها ملف السجون التي تضم أكثر من عشرة آلاف موقوف، معظمهم من عناصر تنظيم “داعش”، وتحتاج إلى ترتيبات دقيقة لنقل المسؤولية إلى الدولة السورية”.
ويضيف ملاعب لـ”963+” أن “الجهوزية العسكرية لقسد تفوق نظيراتها لدى بعض الطوائف السورية الأخرى، ما يمنحها هامشاً للمناورة، إلا أن استمرار هذا الوضع يفرض عليها ثمناً باهظاً”.
كما يشير إلى “معوقات اقتصادية وإدارية تتعلق بتقاسم موارد الزراعة والنفط، ومحاولات “قسد” فرض نموذج فيدرالي قد يقابل بقبول اللامركزية الإدارية كبديل”. ويلفت إلى أن “الاعتراضات الجوهرية على الدستور، ومنها مرجعية الشريعة الإسلامية وطائفية منصب الرئاسة، تمثل عقبات صعبة”، مؤكداً أن “انسحاباً أميركياً مشروطاً وتسوية ملف حزب العمال الكردستاني قد يساهمان في خفض التوتر وتهيئة الظروف لدمج “قسد” ضمن دولة سورية موحدة، في إطار عملية انتقال سياسي ترعاها الولايات المتحدة”.
اقرأ أيضاً: الشرع: تلقينا دعوات دولية لفرض الأمن والسويداء جزء أساسي من سوريا – 963+
السيناريوهات المحتملة
تشير السيناريوهات المطروحة لعملية دمج “قسد” في الجيش السوري الجديد إلى أربعة مسارات رئيسية. أولها، الدمج التدريجي الفردي بانضمام مقاتلي “قسد” كأفراد دون تشكيل كتلة عسكرية مستقلة، وهو ما يواجه رفض دمشق لتشكيل ألوية كردية مستقلة ومقاومة داخلية من “قسد”. ثانيها، الدمج مع هيكلة خاصة تسمح ببعض الهيكلة الإدارية المحلية وضمانات دستورية، رغم رفض دمشق وضغوط تركيا. أما ثالث المسارات، فهو استمرار الانقسام مع دعم أميركي مستمر، ما يضمن بقاء “قسد” قوة شبه مستقلة ودوراً في مكافحة الإرهاب. في حين يتمثل المسار الرابع في التوصل إلى اتفاق شامل يتضمن اللامركزية وضمانات سياسية، مع صعوبات بناء الثقة ومقاومة داخلية كردية وضغوط إقليمية.
وأشار باراك في أحد تصريحاته إلى أن الخلافات بين الحكومة السورية و”قسد” بشأن خطط الدمج لا تزال مستمرة، مؤكداً في تصريحات لوكالة “أسوشيتد برس” أن الولايات المتحدة على ثقة كاملة بالحكومة السورية وجيشها الجديد، وأن استعادة الثقة تحتاج إلى خطوات تدريجية.
وفي هذا الإطار، يشير الباحث السياسي رستم محمود إلى أن هذه السيناريوهات تتركز في مسارين رئيسيين: “إما التوصل إلى صيغة وساطة سياسية توافقية بين قسد والحكام الجدد في دمشق، تتضمن آلية اندماج بطيئة مع الجيش السوري وضمانات أمنية واضحة، أو ممارسة ضغوط أميركية هائلة على “قسد”، ما سيدفع الأخيرة إلى البحث عن خيارات جديدة، قد تشمل التنسيق مع روسيا لحماية مناطقها”.
اقرأ أيضاً: المبعوث الأميركي إلى سوريا: المحادثات بين الحكومة و”قسد” لم تحقق تقدماً – 963+
وبالرغم من ذلك، كان قد شدد المبعوث الأميركي على أن الولايات المتحدة ليست في عجلة من أمرها لسحب قواتها من قواعدها شمال وشرق سوريا، وأن “قسد” كانت شريكاً هاماً في الحرب ضد تنظيم “داعش”.
ويشير محمود إلى أن “قيادة قسد تعتبر أن تسليم السلاح دون ضمانات حقيقية يفتح الباب أمام تكرار سيناريوهات المجازر بحق الأكراد والمناطق الخاضعة لسيطرتهم، شبيهة بما حدث في الساحل السوري”.
وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، في الخامس من الشهر الجاري، عن تخصيص مبلغ 130 مليون دولار من ميزانية عام 2026 لدعم “قسد” و”جيش سوريا الحرة”. ووفق بيان الوزارة، تم تخصيص 15.6 مليون دولار للتدريب والتجهيز، وتشمل الأسلحة والذخائر والمركبات ومعدات طبية واتصالات. كما خصصت 32.4 مليون دولار للدعم اللوجستي من غذاء وخدمات طبية ونقل بري وجوي. وتضمنت الميزانية أيضاً 65 مليون دولار كرواتب شهرية لحوالي 19,000 عنصر، و1.55 مليون دولار لإصلاح البنى التحتية وصيانة مرافق احتجاز عناصر “داعش”، إضافة إلى 15.4 مليون دولار للاستدامة لصالح “قسد” وقوى الأمن الداخلي و”جيش سوريا الحرة”.
وأكدت الوزارة أن هذا التمويل مقدم من صندوق “تدريب وتجهيز مكافحة تنظيم الدولة(CTEF)، وأن انخفاض التمويل مقارنة بالسنة السابقة يعود لتقدم تحديث مرافق الاحتجاز خلال عامي 2024 و2025.
تصفح أيضاً