حضرتُ مع زملاء عرب معرض فرنكفورت الدولي للكتاب. وهو أحد أهم وأرقى المعارض للناشرين العالميين وللجامعات الغربية. وهو مناسبةٌ للاستماع إلى كبار المثقفين في العالم في جديد العلوم الإنسانية والفلسفة والآداب ودراسات الأديان والاتجاهات السياسية الكبرى. وما كانت الجهات العربية الحاضرة كثيرة بسبب أحداث غزة والموقف الألماني السياسي الشديد الانحياز لإسرائيل، بما في ذلك رئيس معرض الكتاب نفسه الذي اعتبر هجوم «حماس» عدواناً على الإنسانية وجريمة كراهية ضد اليهود. وكانت الهيئة الثقافية بالمعرض قد قررت منح جائزة الكتاب للسلام لكاتبة أميركية من أصل فلسطيني اسمها عدنية شبلي، فارتأى القرار السياسي (والثقافي؟) تأجيل الجائزة أو إلغاءها (؟) لأن الكاتبة من أصل فلسطيني! وعلى كل، وبسبب الارتباطات المسبقة، وإرادة الإصغاء عن قرب لهذا الصوت المرتفع في الأوساط الرسمية، ووسائل الإعلام والاتصال بمناسبة الحرب بين إسرائيل و«حماس»- ذهبت إلى معرض فرنكفورت ولم أندم على ذلك. فقد شاركت في محاضرات، واستمعت إلى عشرات المداخلات من جانب مثقفين وأدباء معروفين تعرضوا جميعاً لحدث غزة.
في اليومين الأولين بدت الأجواء هادئة لحضور زملاء متخصصين في الآداب العربية أو دراسات الشرق الأوسط. بيد أنّ زميلاً ألمانياً نصحني بشراء الصحف والمجلات الألمانية لهذا الأسبوع، وقد وجدتها هائجةً بالفعل. لفتني مقال طويل في «درشبيغل» يشبه فيه صاحبه هجوم «حماس» على مستوطنات غلاف غزة، بهجوم أيلول الأسود (الفلسطيني) عام 1972 على الفريق الرياضي الإسرائيلي وقتل أحد عشر لاعباً خلال الأولمبياد بميونيخ! بينما ذهب آخرون في الصحف إلى أن على ألمانيا واجباً تجاه اليهود لا يجوز إنكاره. وما تعجبتُ لذكر اليهود وليس إسرائيل، فقد اعتدنا على ذلك من خطابات بايدن وبلينكن. إنما عشية اليوم الثاني تحدث في الحرب الكاتب والفيلسوف جيجاك وتعرض لأمرين: عدم جواز تشبيه هجوم «حماس» بالهجوم الروسي على أوكرانيا- ولماذا التركيز على اليهود واليهودية ومعاداة السامية، وليس على الصراع مع الدولة الإسرائيلية التي تحتل فلسطين؟! بالطبع يحدث ذلك لإثارة التعاطف والتذكير بالهولوكوست، لكن يحدث ذلك أيضاً لهضم حقوق الفلسطينيين. جيجاك ضد أيديولوجيا «حماس» بل وهو ضد هجومها على المدنيين، لكنه عاد فقال: الجريمة جريمة، لكن لا يجوز المقارنة بين جرائم الدولة الإسرائيلية المستمرة منذ عقود، وانتحاريات ميليشيا «حماس»! كان الجمهور ومعظمه من الألمان الشباب هادئاً فلما قال الرجل ما قاله قام الجميع تقريباً صارخين مستنكرين وغادروا القاعة التي كانت مكتظة.
في الأيام التالية سمعتُ وحضرتُ نقاشات كثيرة حتى من دون سياق. فخلال ندوة عن ترجمات الروايات العربية إلى اللغات الأوروبية، تحدث المترجم عن روايات غسان كنفاني القديمة التي ترجمها قبل أربعين عاماً عن بدايات المقاومة وقال إنه بسبب الاختلاط في سبعينات القرن الماضي بين هذا الأدب وأعمال خطف الطائرات، بدا الكفاح الفلسطيني وقتها أيضاً إرهاباً؛ أما اليوم فصار العبء عبأين كما يقال: عبء عدم جواز التعرض لإسرائيل مهما فعلت بسبب عُقَد الماضي الغربي مع اليهود، والأوروبيون والأميركيون هم الذين دفشوهم إلى فلسطين وعليهم مسؤولية حمايتهم إلى الأبد. والعبء الآخر أنّ الهاجمين إسلاميون يذكّرون بـ«القاعدة» و«داعش». ولأنّ الحاضرين ما كان معظمهم من الألمان، فقد اقتصر الردّ على المشاركة الفرنسية في الندوة وهي تدعم ترجمة الروايات العربية الفلسطينية من عشرين عاماً، لكنها يهودية وتشعر بالصدمة التي شعر بها الجمهور اليهودي وبخاصة النساء في إسرائيل وفي سائر بقاع الأرض نتيجة ما تعرضت له النساء في مستوطنات غلاف غزة.
قال لي روائي عربي كان جالساً بجانبي: أنت تظن الردّ الصحيح إجابة السيدة أنّ الفلسطينيين عندهم أيضاً نساء وأطفال ويُقتلون الآن بغارات الطائرات على غزة كما قُتلن وقتلوا طوال خمسة وسبعين عاماً. لكنّ هذا ليس الردّ الملائم أو المقنع، فهؤلاء القتلى غير أولئك وسيظلون كذلك مهما صار!
بعد الاستماع الكثير والنقاش الكثير أستطيع القول إنّ المثقفين الأوروبيين والأميركيين يستطيعون الفهم والتمييز والانتقاد، لكنّ الرأي العام في معظمه تختلط لديه مشاعر التضامن مع الإسرائيليين بمشاعر الكراهية للإسلام. فقد كان أحد المتحدثين يستشهد على سلمية الإسلام بالآية القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} ويترجمها بإنجليزيةٍ جميلة، فصاح به شاب ألماني: ألا يعرف الحماسيون القرآن وسلميته فيتبعوه ويكفّوا عن قتل الناس؟! وقبلهم «القاعدة وداعش والجهاد»… توقف يا رجل عن نشر هذه الأوهام، فهؤلاء جميعاً قتلوا ويقتلون باسم الإسلام والقرآن!
وإذا صحَّ التعبير هناك عبءٌ ثالثٌ ذكره لي عَرَضاً ستيفان فايدنر صاحب كتاب: «ما وراء الغرب» (الذي تُرجم حديثاً إلى العربية): طوال مائة عام (منذ وعد بلفور 1917) يدعم الأميركيون والأوروبيون التفوق الإسرائيلي بشتى الوسائل ويشعرون بالراحة عندما ينتصر الإسرائيليون في كل الحروب، لكن أخيراً صُدمَ الجميع بالهشاشة التي بدا عليها الإسرائيليون عسكراً ومدنيين، هذا الخوف الهائل من «حماس» ومن «حزب الله» ومن سائر المقاتلين نحن نزعم أنه لا مبرر له، لكنّ الرأي العام الإسرائيلي خائف بالفعل من الزوال وهو خوف يشعر الأوروبيون والأميركيون مثله تجاه الإسلام؛ نعم المشكلة معقدة، وليست في أوروبا وأميركا قيادات ذات كفاية لعقلنة مشاعر الخوف والتوجس!
لماذا يشعر المثقفون الأوروبيون والأميركيون بالحاجة إلى القادة الكبار في هذه القضية بالذات؟ لأنهم مقتنعون – كما قال لنا نائب ألماني بالبرلمان الاتحادي من حزب الخضر – بأنه لا حلّ لتعقيدات مشكلات العلاقة بروسيا والعلاقة بإسرائيل والفلسطينيين والعلاقة بالصين إلاّ السلام الدائم على طريقة الفيلسوف الألماني كانط. هو سلام القوة الناعمة الذي تحدث عنه جوزف ناي في تسعينات القرن الماضي، وكان يقصد بذلك الولايات المتحدة. المطلوب ظهور قيادات تحظى بثقة الجمهور، وتستطيع إقناع الإسرائيليين بفائدة السلام لهم ولجيرانهم.
النائب الألماني نفسه (لا يريد أن يُذكر اسمه) يتطلع في ذلك من جديد إلى العرب الذين يحتاج إليهم العالم. ويحتاج إليهم الفلسطينيون أكثر من أي وقتٍ مضى. في هذه الأيام، وفي الوقت الذي يذهب فيه ماكرون إلى إسرائيل، تذهب وزيرة خارجية ألمانيا إلى المملكة العربية السعودية. هناك إحساسٌ قوي بالضعف الأوروبي وعدم القدرة على المبادرة. وهذا ما عناه بوريل مسؤول العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي عندما تحدث عن «السلطة الأخلاقية». فالواحد منا لا يستطيع أن يتحيز ويرتكب حماقات، ويراعي إنسانية اليهود، ولا يراعي إنسانية العرب والمسلمين. أنت تفقد صدقيتك عندما تتبع سياسة الأرض المحروقة أو تسير بازدواجية المعايير. والطريف أن المفكرين العرب كانوا قد اتهموا الأمم المتحدة ومؤسساتها أواخر الأربعينات بهذا الأمر لأنهم لم ينصفوا الفلسطينيين!
الرأي العام الغربي الذي تصنعه وسائل الاتصال والأحزاب السياسية وأخلاقيات الحرب الباردة وما بعدها ومخاوف العنف المستطير الآتي من الشرق العربي والإسلامي، والهجرة الآتية من الشرق ذاته، هذا الغرب لا يقبل عنفاً ضد اليهود، وينبغي باسم الأخلاق التي يحرص عليها البابا فرنسِس وبوريل إقناعه أنّ السلام للجميع هو الذي ينقذ العالم من عنف الظلم والانظلام.