منذ وراثة مارين لوبان حزب الجبهة الوطنية عن والدها في العام 2011، انتهجت ما عُرف بسياسة “نزع الشيطنة”، وهي عبارة عن استراتيجية إعلامية غايتها إيصالها إلى رئاسة الجمهورية عبر تدجين خطابها الإعلامي.

تصدُّر حزب التجمع الوطني، أبرز أحزاب اليمين المتطرف الفرنسي، نتائج الانتخابات البرلمانية ليس وليد المصادفة. صحيح أن الحزب استفاد من الفشل الاقتصادي للحكومات المتعاقبة منذ العام 2007 إلى جانب ما عرفته الأحزاب الأخرى من أزمات وتشتّت، لكن لا يمكن تجاهل أن شعبيته شهدت نمواً ثابتاُ طوال 13 عاماً، ما يدلّ على تجذّرها وخروجها من إطار ردة الفعل المرحلية.

منذ وراثة مارين لوبان حزب الجبهة الوطنية عن والدها في العام 2011 (قبل تحويله بعد سنوات إلى حزب التجمع الوطني)، انتهجت ما عُرف بسياسة “نزع الشيطنة”، وهي عبارة عن استراتيجية إعلامية غايتها إيصالها إلى رئاسة الجمهورية عبر تدجين خطابها الإعلامي.

بخلاف ما تبدو عليه الصورة، لم يتغير جوهر مشروع حزب التجمع الوطني، فهو لا يزال معادياً للهجرة على نحو عنصري، بدليل نظرته الى المهاجرين التي ترى فيهم تهديداً ثقافياً لفرنسا. لكن عوضاً عن تسويق طروحاته على نحو مباشر وحادّ كما كان يفعل الأب، لجأت ابنته إلى مفردات أقل حدة وحجج مغايرة.

على سبيل المثال، عوضاً عن تناول استنزاف المهاجرين موارد فرنسا، رفعت لوبان شعار “الأولوية الوطنية” للترويج أن غايتها ليست التضييق على المهاجرين، إنما منح الفرنسيين الأولوية للاستفادة من موارد بلدهم.

من جانب آخر، ليس انحيازها المستجد إلى الطبقات الشعبية كما معاداتها الشراكة الأوروبية، إيماناً منها بتلك الخيارات الاقتصادية بقدر التحريض ضد المهاجرين وإيجاد سبل إضافية للتضييق عليهم. فالشراكة الأوروبية لا تكتفي بفتح الأسواق وبحرية انتقال البضائع والسلع، بل تقوم أيضاً على حرية انتقال الأفراد. الغرض من معاداة مارين لوبان النهج الاقتصادي الأوروبي هو استعادة صلاحيات سيادية وطنية تتيح لها تحكماً مطلقاً بالحدود.

كذلك، يأتي دفاعها عن الطبقات الشعبية في سياق تكريس الصورة النمطية للمهاجر وتقديمه كشخص يفتقد مستوى اجتماعياً وتعليمياً مرتفعاً، ما يجعل منه تهديداً لأقرانه الفرنسيين. إذاً، تهدف مغازلتها محدودي الدخل إلى إرساء أرضية معادية للمهاجرين ليس أكثر، بدليل الآراء النقدية التي تتناول تخبّط حزبها في طروحاته الاقتصادية وافتقاده رؤية واضحة المعالم.

في ما يخص “التهديد الثقافي” الذي يمثّله المهاجرون، بخاصة وأن الصورة النمطية تحيلهم جميعاً إلى الديانة الإسلامية، كان جان ماري لوبان يتمسك بإعلاء الهوية المسيحية لفرنسا، ليس انسجاماً مع قناعاته الدينية بقدر تطويعها كأداة فرز بين الفرنسيين و”الأغراب”.

لكن مارين لوبان ابتعدت عن هذه الحجة منتهجة استراتيجية مغايرة أتاحت لها اصطياد عصفورين بحجر واحد: إعلانها التمسك بعلمانية البلاد سمح لها أولاً بتبييض صورتها وصورة حزبها والترويج لكونها تتقاسم الثوابت والقيم ذاتها مع باقي القوى السياسية. أما “العصفور الثاني”، فكان قدرتها على المزايدة السياسية وكأن معاداتها المهاجرين هي دفاع عن علمانية البلاد لا سيما مع لجوئها بين الحين والآخر إلى إثارة ملفات إشكالية كاللحم الحلال والحجاب والبوركيني. عملياً، لم تتغير ذهنية الابنة، بل الأدوات هي التي تبدّلت.

كما سعت لوبان أيضاً إلى محو صفحات من “التاريخ الأسود” الذي ورثته عن والدها، الذي أسس حزب الجبهة الوطنية برفقة مجموعة من النازيين الفرنسيين.

 

هل تتصدّى فرنسا لليمين المتطرّف؟

فرنسا: محاكمة تاريخيّة لمسؤولين أمنيين سوريين
الإرث السياسي لجان ماري لوبان ارتكز، في جانب منه، على معاداة الديغولية والدفاع عن حكومة فيشي والجنرال فيليب بيتان. لكن لوبان الابنة اختارت الضفة الأخرى من التاريخ: في الذكرى الـ 80 لنداء 18 حزيران/ يونيو الشهير، لم تكتف بالتوجه إلى ضريح الجنرال شارل ديغول، بل اعتبرت نفسها “امتداداً طبيعياً للديغولية” بعد مناداتها بالسيادة وباستقلالية القرار الفرنسي وفرض الانضباط والنظام الصارم وتخطّي ثنائية اليمين واليسار. رسالة مارين لوبان لا تتبنى رواية تاريخية مغايرة، بل هي منسجمة تماماً مع الرواية التاريخية الرسمية، بخاصة حقبة الاحتلال النازي.

صفحة أخرى نجحت نوعاً ما في طيّها، وهي معاداة السامية.

مارين لوبان التي انحازت انحيازاً مطلقاً إلى الجانب الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، سمحت لنفسها باتهام خصومها بمعاداة السامية لانحيازهم إلى الصف الفلسطيني، في رغبة واضحة بالقطع مع تاريخ حزبها ووالدها الحافل بمعاداة السامية.

غاية لوبان مزدوجة: أولاً التأكيد على ارتباطها بالقيم الفرنسية المشتركة، وثانياً اعتبارها فرصة إضافية للتصويب على المهاجرين من خلال اختزال حركة حماس بهويتها الإسلامية.

في هذا السياق، لا بد من التذكير بما أقدمت عليه في العام 2015 حين طردت والدها من الحزب على خلفية إدلائه بتصريحات معادية للسامية، وهو ما سنأتي على ذكره لاحقاً.

من الطبيعي أن يتساءل أي قارئ عن سبب التشكيك في “نواياها الصادقة” وما إذا كان التشكيك نوعا من التجنّي. الرد على هذا التساؤل وفّرته التحقيقات الاستقصائية التي وثقت ما يدور في الأروقة: لا مانع من بوح المحازبين بمعتقداتهم، شرط عدم خروجها إلى الإعلام.

ففي وثائقي حمل عنوان “الوجه الخفي للجبهة الوطنية”، دخلت كاميرا C8 الى مقر الحزب في مدينة نيس وتحت ستار الرغبة في الانتساب الى الحزب، وثّق أحد الصحافيين بكاميرته السرية ما لا يخرج إلى العلن.

ففي إحدى الاجتماعات، تفوه أحدهم بكلام ينطوي على كراهية تجاه المهاجرين والمثليين، ما أربك براين، المسؤول المحلي للحزب. سبب إرباك براين ليس مضمون الكلام بل وجود فريق صحافي ألماني كان يصور الاجتماع في إطار إعداده فيلماً وثائقياً، وهو ما دفعه إلى فصل الشخص المذكور.

ما يؤكد أن فصله ليس تصدياً لهذه الأفكار العنصرية، هو توثيق امتلاك المحازبين، بمن فيهم براين، حسابين على مواقع التواصل الاجتماعي: حساب رسمي وآخر وهمي ينشرون من خلاله ما يحلو لهم من مواد ذات محتوى عنصري.

امتلاك محازبي حزب الجبهة الوطنية (الذي تحول إلى حزب التجمع الوطني) حسابين على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس تصرفاً فردياً بعدما أُشير إليه في تحقيقات متفرقة عدة، ما يعني أنها حالة منتشرة في أوساطهم بمن فيهم جوردان بارديلا، الرئيس الحالي للحزب والمرشح لتولي رئاسة الحكومة: ففي مطلع العام الحالي، أكدت محطة France2 امتلاك بارديلا في وقت سابق حساباً وهمياً على تويتر خصصه لنشر تغريدات عنصرية.

ما حصل مع لوبان الأب حكاية أخرى تدل على غياب النوايا الصادقة. جان ماري لوبان من أبرز الشخصيات المعروفة بعنصريتها ومعاداتها السامية، لا سيما تصريحه الشهير في العام 1987، ففيه استهان بغرف الغاز النازية واصفاً إياها “مجرد تفصيل في مسار الحرب العالمية الثانية”، وملمحاً الى أنها ليست حقيقة مؤكدة بنظره. عبارة لا تزال حاضرة في الذاكرة السياسية الفرنسية وتلاحق لوبان الأب وكل من يدور في فلكه.

في العام 2015، وفي خضم تطبيقها سياسة نزع الشيطنة، طُلب من مارين لوبان خلال لقاء صحافي توضيح موقفها من تصريح والدها الشهير، لترد: “غرف الغاز ليست تفصيلاً”.

بعدها بأيام، أطل جان ماري لوبان على الإعلام مؤكداً تمسكه بما أدلى به، ما دفع الحزب إلى طرد زعيمه التاريخي بمباركة مباشرة من ابنته مارين.

لو اكتفينا بسرد الواقعة على هذا النحو ستبدو مارين لوبان شخصاً حريصاً على مكافحة الطروحات العنصرية من دون أي اعتبار شخصي. إذا كان الأمر كذلك، لماذا لم تبادر إلى فصل محازبيها المتورطين بتصريحات عنصرية ومعادية للسامية؟ ولماذا رشّحت عدداً منهم إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفقاً لما كشفت عنه صحيفة Libération؟ الإجابة في غاية البساطة: لأن هذه التصريحات لم تلق صدى إعلامياً كما حصل مع والدها.

علاوة على ذلك، من يشاهد مقابلة مارين لوبان وهي ترفض تبني تصريحات والدها حيال غرف الغاز، يلاحظ محاولتها التهرب من الإجابة، ولولا إصرار محاورها الحصول على رد لا لبس فيه، لما أدلت ربما بهذا الكلام. أداء يسمح بالتشكيك في مدى قناعتها بهذا التصريح.

لو أردنا القيام بمقارنة وفقاً لمعادلة القبل والبعد، نستنتج أن الفارق بين لوبان الأب والابنة هو الرغبة في تولّي الحكم. جان ماري لوبان ليس بالشخص الساذج، كان يدرك تماماً أن إطلاقه مثل هذه المواقف سيقطع طريق السلطة عليه.

في المقابل، تسعى ابنته بكل جدية الى الوصول إلى قصر الإليزيه، ما دفعها إلى تعديل خطابها الإعلامي والاعتناء بصورتها الإعلامية من خلال استراتيجية نزع الشيطنة، وهذا ما سمح لحزبها بتوسيع قاعدته الشعبية لتطاول شرائح متعلّمة وميسورة مادياً بحسب دراسة لمعهد جان جوريس صدرت في شباط/ فبراير 2024.

التذكير بما ورد أعلاه ليس فقط لإماطة اللثام عن حقيقة حزب التجمع الوطني الذي يوهم الفرنسيين بالقطع مع إرثه، بل كذلك للإشارة إلى وجود ضوابط وقواعد وأعراف في الحياة السياسية يستحيل القفز عنها، ما يعني أن حزب التجمع الوطني، وفي حال أمسك بالسلطة، لن يكون حراً في صياغة مواقفه بالشكل الذي يحلو له.