شغلت مسائل الاستلقاء والنوم والاستيقاظ أذهان عدد من العلماء والفلاسفة والباحثين، وتواترت في السنوات السابقة سلسلة من الأبحاث والدراسات التي تناولتها في تطوراتها وتغيراتها في العالم بإيقاعه السريع، ونظرت في علاقاتها بمختلف الأنشطة التي نقوم بها، كي تحللها وتبيّن مدى تأثيرها على حياة الإنسان. وفي هذا السياق، يقدم الباحث الألماني بيرند برونر في كتابه “فن الاستلقاء: لماذا ننام… لماذا نستيقظ… ولماذا نعيش؟” (ترجمة سمر منير، العربي، القاهرة، 2024)، بحثًا حول فن الاستلقاء، عبر استعراض وضعياته وأشكاله في التاريخ الإنساني، وتناوله في إطار ارتباطه بالنوم والاستيقاظ والحركة ومختلف الأنشطة الإنسانية، وطرح أسئلة حول ضرورات وأهمية الاستلقاء والنوم والاستيقاظ، وفق فلسفة تنشغل بتحليل تأثيراتها على حياة الناس، حيث يتيح الاستلقاء للإنسان احتمالات كثيرة، كونه يحتوي نطاقًا كاملًا من الأوضاع الإنسانية، من السلبية إلى النشاط والحماسة، فحياة الإنسان تبدأ وتنتهي في استلقاء.
يحمل الاستلقاء معناه في حدّ ذاته، ولا يحتاج إلى السعي لوضع أطروحات فلسفية معقَّدة عنه، فعندما نستلقي نكون أقرب إلى الأرض، وربما نتكيَّف معها، ويخلق هذا الأمر رابطة خاصة. كما يمنح الاستلقاء الإنسان فرصة، ليس للراحة فقط، بل للتفكير وتأمل ما حوله من أشياء، وإعادة التفكير فيها، فيما يجدد النوم نشاطه ودوافعه، وحتى نظرته إلى العالم. إضافة إلى أنه يمكن للاستلقاء والنوم أن يؤثرا على مشاعره العاطفية والنفسية، فالسرير لا يختصر في المكان الذي يستلقي عليه الإنسان وينام، بل أيضًا يحلم فيه، ويمارس الحب، ويتأمل، ويستسلم لمزاج حزين، ويتخيَّل، ويعاني عليه كذلك.
تنهض أطروحة المؤلف في كتابه من اعتبار أن جسد الإنسان مؤهل لأداء ما هو أبعد من الحركات المحدودة التي تطلب منه في عالم اليوم، فهو يجلس وقتًا طويلًا جدًا، ويتحرك أقل بكثير من أسلافه من البشر، الذين عاشوا قبل أجيال عدة. ويؤدي الإنسان في حياته أشكالًا متغيرة من الحركة، من المشي إلى الاستلقاء، والوقوف والجلوس، بفضل تركيبته الجينية واستعداداته الجسدية، أما البقاء في وضعية الاستلقاء، فهو أحد هذه الأشكال فقط. إنه يجذب الإنسان نحو الأرض، وهو في صراع دائم مع هذه القوة، أو الجاذبية، حتى وإن كان لا يعي ذلك على الإطلاق، بما أنه معتاد على هذا الأمر، ويفعله تلقائيًا، وعندما يستلقي الشخص يخفف من أعبائه، ويسترخي كي يهرب من إيقاع الأمور التي تحتاج إلى الانتباه، الذي عادة ما يفرض إملاءاته على الحياة اليومية في ظل استشراء القلق. ووفق هذا المنظور يجري اعتبار المشي والاستلقاء وجهين لعملة واحدة، لأن وجود أحدهما يستلزم وجود الآخر بطريقة ما، فمن سار، أو تجول، أو ركض، أو مارس رياضة التجديف إلى درجة الإنهاك، هو الشخص الوحيد الذي يعرف الإحساس اللامتناهي بالاسترخاء، والحاجة إلى الاستلقاء، بينما ينظر البعض إلى الاستلقاء من منظور مختلف، حيث يرون أن الاستلقاء هروب، لكن عندما تصبح أجسادنا مثقلة بالأعباء، وتصير الأمور صعبة جدًا، فإن الاستلقاء يمثل الرجوع إلى نقطة الصفر.

“يُعبّر كثير من الناس عن رفضهم البقاء في السرير مدة طويلة، بالنظر إلى أنهم يرون في ذلك كسلًا بلا معنى، لكن المؤلف يراه نزهة وسط الضباب الكثيف التي تصير أفكارنا في نهايته أوضح”

يُعبّر كثير من الناس عن رفضهم البقاء في السرير مدة طويلة، بالنظر إلى أنهم يرون في ذلك كسلًا بلا معنى، لكن المؤلف يراه نزهة وسط الضباب الكثيف التي تصير أفكارنا في نهايته أوضح من ذي قبل، فلا ضرر من الاستلقاء بوعي، بحيث يشكل ممارسة محسوبة جيدًا، للهروب من الضغط الدائم بسرعة وفاعلية. إضافة إلى أنه يشكل وسيلة لمجابهة الاكتئاب، لأن الشخص المستلقي يمكنه أن يجوب الآفاق في خياله، وليس هناك مجال لأن يلتقي بأناس وأماكن حقيقية قد تؤثر سلبًا في أفكاره.
غير أن الاستلقاء يمثل أيضًا الوضع المفضل للشخص الكسول. والكسل المطلق لا يسعى وراء شيء، لا فرح، ولا حتى ارتياح، ولا يخطر ببال الشخص الكسول أن يبذل أدنى مجهود للاستمتاع، فيما في المقابل، يمارس أناس آخرون الاستلقاء من دون الاكتراث للتفاصيل. وعليه، يمكن اعتبار أن الاستلقاء يمكن أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا، وذلك حسب الحالة المزاجية للشخص المستلقي. كما أن الطريقة التي يعمل فيها الشخص تؤثر على الاستمتاع بالاستلقاء. وهناك ميل نحو اعتبار الشخص المستلقي سلبيًا، أو عاجزًا عن الحركة، أو خاضعًا للآخرين، لكن في غالب الأحيان الأمر ليس كذلك، ولا علاقة له بدوافع الشخص المستلقي، فقد يرغب في أن يهوي بجسده، ويستريح، أو يسترخي، وقد يريد التقاط أنفاسه من أجل القيام بخطوة تالية. ويمكن أن يكون الاستلقاء جزءًا من استراتيجية ذكية، عندما يكون الإنسان في حالة تربّص، أو ترقب. كما يمكن أن يعبر الاستلقاء عن حالة تمرد حين يتجمع عدد من الناس ويستلقون في الشارع بغية منع حركة المارة والمركبات، ومن أجل تنفيذ احتجاجهم والمطالبة بشيء ما، أو للاعتراض على شيء ما. وهنا يمكن تذكّر دعوة كل من المغني البريطاني جون لينون، والفنانة اليابانية يوكو أونو، للبقاء في السرير لمدة أسبوع احتجاجًا على الحرب الأميركية على فيتنام.
يتناول المؤلف فعل الاستلقاء في خضم التغيرات الاجتماعية، حيث شهد طفرات بدرجات متفاوتة، منذ ولادة الحياة البشرية وإلى اليوم. ويلفت إلى أن الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا ينظرون نحو الشرق كي يستلهموا من عاداتهم في ما يخص استلقائهم. ثم تطورت وضعيات الاستلقاء من التغيرات الكبرى التي حدثت في عالم العمل، والعلاقة بين العمل ووقت الفراغ، وموقف مجتمعاتنا من الاستلقاء، والتدابير التي ابتدعها البشر من أجل الاستمتاع بالاستلقاء والنوم، وشملت قطع الأثاث المصنوعة خصيصًا للاستلقاء، كالأريكة والسرير، ومعها تغيرت أنماط الاستلقاء، التي عرفت طرقًا شائعة وأخرى غير مألوفة.
يمكن النظر إلى فن الاستلقاء، أو بالأحرى ذلك الوضع الأفقي، ليس كوضعية جسدية فحسب، وليس شكلًا للحياة أو الوجود، بل وضعًا غير مستقل في حد ذاته، فهو يتواصل مع فنون أخرى، منها فن عدم فعل أي شيء، وفن الاكتفاء بالقليل، وفن الاستمتاع، وفن الاسترخاء، وكذلك فن الحب الذي يعد مضربًا للأمثال. لكن في غالب الأحيان يمثل التعب السبب الوحيد المقبول للاستلقاء، بينما في أحيان أخرى نتلقى تحذيرات باستمرار تفيد بأنه يجب علينا أن نظل في كل لحظة في حالة حركة دائمة، وأن ما يخالف ذلك هو علامة على عدم الانضباط، والضعف، والافتقار إلى الطموح، وبالتالي، يجري اعتبار وقت الاستلقاء مهدورًا، ولا يجوز البقاء في وضع أفقي إلا من أجل تجديد الطاقة، وبأقل وقت ممكن، بينما لا يعتبر المؤلف الاستلقاء هدرًا للوقت، لأن زمن الاستلقاء هو زمن لطيف وجزء محوري من الحياة، حيث أن الزمن الراهن يجعلنا نتحرك أقل من أولئك الذين كانوا يعيشون في العصور القديمة. ويؤكد على أن الاستلقاء والمشي هما وجهان لعملة واحدة، بالنظر إلى أن وجود أحدهما يستلزم وجود الآخر.
يتتبع المؤلف تمثيلات الاستلقاء في الرواية على مستوى الأدب، وكذلك على صعيد الفن التشكيلي، والتصوير الفوتوغرافي، فيجد أمثلة كثيرة على الاحتفاء بوضعية الاستلقاء، عبر عدد من التماثيل واللوحات والصور التي يمكن أن تشكل متحفًا خياليًا. أما في مجال الطب النفسي، فيذكر أن سيغموند فرويد اعتاد الربط بين تطبيق العلاج النفسي عن طريق التفريغ العقلي، والعلاج عن طريق الاستلقاء، والذي كان يصمَّم بحسب الحاجة، كي يصبح مثل نظام “وير ميتشل” الغذائي لزيادة الوزن زيادة كاملة، حيث رأى فرويد أنه، باستخدامه العلاج بالاستلقاء، كان يتمتع بميزة تجنَّب التدخل المزعج للغاية لانطباعات نفسية جديدة في أثناء إجراء العلاج النفسي، كما كان يتفادى الملل الناتج عن النظام الغذائي المتَّبع لزيادة الوزن، حيث يهوي المرضى في كثير من الأحيان في أحلام ضارة. وسبق أن شاع لجوء الناس إلى الاستلقاء قرابة نهاية القرن التاسع عشر باعتباره بديلًا من تلقي العلاج، وذلك عند الإصابة بضعف الأعصاب والهستيريا والضعف البدني العام.
أخيرًا، يتساءل المؤلف عن كيفية تغير علاقتنا بين الاستلقاء والجلوس والمشي مستقبلًا، وعما إذا كنا سنعيد اكتشاف الاستلقاء في عهود سابقة، مشيرًا إلى أن موجات الازدهار الثقافي في الوقت الحاضر تنحاز لمصلحة الاستلقاء، وذلك في سياق الرغبة المتزايدة في تغيير التعامل من الوقت. وقد حذر فلاسفة ومفكرون من وجود شيء غير صحيح في العلاقة بين الوضع الرأسي للجسد الإنساني والوضع الأفقي، وطالبوا بأن تتغير الطريقة التي نتعامل بها مع الوقت، وذلك في سياق ردهم على الأيديولوجية المهووسة التي تطالب بأن يكون كل شيء في حال حركة دائمة من أجل إحراز تقدم.
عنوان الكتاب: فن الاستلقاء: لماذا ننام… لماذا نستيقظ… ولماذا نعيش؟ المؤلف: بيرند برونر المترجم: سمر منير