البراغماتية هي الفلسفة الأولى التي يعتنقها الأميركيون، تتلخص في أن العِبْرَة للنتائج وليست للوسائل. لكن الأثر الفعلي يقول أيضاً بأن الجميع في الشرق والغرب يتعامل مع حركة “طالبان” الأفغانية تحت مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، من دون اعتبارات جادة لواقع الدولة والحياة في أفغانستان على إثر عودة الحركة المسلحة وانفرادها بحكم كابول بعد الانسحاب الأميركي في 31 آب (أغسطس) 2021.

وهذه الرؤية البراغماتية نجدها تحققت في اجتماع الدوحة حول أفغانستان برعاية الأمم المتحدة، الأحد 30 حزيران (يونيو) الماضي. وكذلك في اجتماع شانغهاي الذي استضافته آستانة عاصمة كازاخستان، الخميس 4 تموز (يوليو) الجاري.

بتوقيت “طالبان”
كان اجتماع الدوحة في جولته الثالثة كأنه قد أُقيم بتوقيت “طالبان”! اذ شاركتْ الحركة المسلحة للمرة الأولى في اجتماع دولي يتناول الأزمة الأفغانية. ويبدو أيضاً أن مشاركتها في تلك الجولة،على عكس الجولتين السابقتين، جاءت بعدما استطاعت أن تُعدل موضوعاتها، حتى أن المتحدث باسم حكومة “طالبان” ذبيح الله مجاهد، قال بعد عودته من الدوحة، خلال مؤتمر صحافي في كابول: “لقد خرجت أفغانستان من عزلتها، والآن هناك مناخ من الثقة… لقد تغيرت سياسة المسؤولين الأجانب تجاه أفغانستان بشكل إيجابي، ويتمتعون بروح تعاون جيدة”!

لقد عملتْ “طالبان” على اتباع استراتيجية قوامها “من أجل البقاء”، فإن كان المجتمع الدولي والقوى الإقليمية تطالبها بالرحيل وتشكيل حكومة تعددية، فهي قامت بوضع تلك القوى أمام مخاوف أكبر إذا ما فرغت السلطة في أفغانستان أو دخلت البلاد في حرب أهلية، بخاصة في ظل تنامي وجود تنظيم “داعش-خراسان”، وبعدما أيضاً تشجعت استثمارات البلدان المتعطشة لمناجم أفغانستان أو لجغرافيتها وممراتها.

وهو ما يفسر لماذا العملة الأفغانية آخذة في الصعود رغم العقوبات المصرفية، الى جانب نمو تجارة المخدرات وزراعتها ونمو الحركات المتطرفة داخل أراضيها. والسبب يرجع إلى أموال الدعم التي تصلها سراً باسم محاربة تنظيم “داعش-خراسان”. أي إن حركة “طالبان” توفر مواردها المالية باسم مكافحة الإرهاب، وتستخدم الموارد المالية التي تحصل عليها من أجل تعزيز الإرهاب وتطويره أيضاً! وتشير المعارضة الأفغانية إلى بناء “شبكة حقاني” مستوطنات لاستضافة أعضاء الجماعات المتطرفة الأجنبية.

لقد كان اجتماع الدوحة في جولته الثالثة انتصاراً لاستراتيجية “طالبان”، فقد تم استبعاد النساء الأفغانيات الحقوقيات من المشاركة في هذا الاجتماع، وهو ما اعتبرته الحركة تلبية لمطالبها، فقال متحدثها: “لقد أبلغنا الدول المشاركة أن المشاكل الداخلية التي تتعلق بالشعب والمرأة، هي مشاكل أفغانستان ولا يحق التدخل فيها”، الأمر الذي وضع الأمم المتحدة في حرجٍ، ما دفعها الى عقد اجتماع مغلق للاستماع الى النساء الأفغانيات وقضاياهن، الثلاثاء 2 تموز (يوليو)، أي بعد يوم من اختتام الاجتماع الرئيسي في الدوحة.

لقد استطاعت “طالبان” أن تقنع المجتمع الدولي بأن أي اجتماع من دون مشاركتها لن يكون ذا جدوى، وهو ما ساعدها على فرض شروطها للمشاركة في الجولة الثالثة من المحادثات الأممية، إذ رفضت تعيين مبعوث أممي الى أفغانستان وطالبت بأن يكون الاتصال مباشرة مع الحكومة الموجودة في كابول، وهو ما يمثل اعترافاً دولياً بالواقع الموجود في أفغانستان. وبدلاً من مناقشة القضايا الحقوقية التي هي لب أزمة الشرعية في البلاد، طالبت الحركة في اجتماع الدوحة برفع العقوبات المالية والمصرفية من أجل تحسين أوضاع الاقتصاد الأفغاني ودعم الاستثمارات الأجنبية وهو ما يمثل رئة أوكسجين لبقائها واستمرارها في السلطة، بل ان المجتمع الدولي بدأ يبحث عن سبيل للتعامل مع “طالبان” والتكيف مع حالتها، فالخارجية الأسترالية عينت أماندا ماكغريغور ممثلةً خاصة لشؤون أفغانستان، تواصل مهمتها عن طريق الدوحة، وهو ما يفسر أسباب استمرار عمل مكتب “طالبان” في قطر.

ترويض الحصان
كان اجتماع شنغهاي الذي تناول قضية أفغانستان ضمن أجندته، بمثابة الرؤية التي يقدمها الإيرانيون تجاه أفغانستان، فـ”طالبان” هي بمثابة “حصان أسود بري”، ليس المهم تغيير لونه إلى الأبيض، بل الأكثر أهمية هو ترويضه وتوجيهه في الاتجاه الذي يريده فارسه.
وهذه الرؤية البراغماتية هي التي تتعامل بها القوى الخارجية كافة مع “طالبان” الآن. ولا ننسى أن قوى مجاورة مثل روسيا وإيران ساهمت في ركض هذا الحصان على الكثير من الأراضي الأفغانية، في ظل وجود حكومة أشرف غني الشرعية، قبل هروبها الى الخارج مع الانسحاب الأميركي.

كانت كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أمام قمة شنغهاي معبرة عن الرؤية التي تحملها القوى الخارجية تجاه “طالبان” الآن، فحفظاً لماء الوجه طالب بتشكيل حكومة شاملة في أفغانستان. ولكن من أجل الواقع طالب أيضاً بمساعدتها على عدم تحولها الى مركز للجماعات الإرهابية!

كان غوتيريش يبدو كأنه مبعوث غربي، فالولايات المتحدة الأميركية التي حاربت “طالبان” تعمل الآن على توسيع تعاونها الاستخباري مع الحركة المسلحة من أجل تعقب جماعة “داعش- خراسان” الإرهابية ورصد المعلومات حولها.

وتتجلى البراغماتية أكثر، حينما نعرف أن كلا من الولايات المتحدة وروسيا لا تزالان تضعان “طالبان” على قائمة الإرهاب، لكنهما في الوقت نفسه تستفيدان منها في مكافحة الإرهاب. فقد وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال قمة شنغهاي، “طالبان” بأنها حليفة موسكو في محاربة تنظيم “داعش”. وطالب أيضاً بإحياء مجموعة “اتصال شنغهاي” الخاصة بأفغانستان.

تعدين وممرات
كانت كلمة الرئيس الصيني شي جينبينغ، في قمة شنغهاي معبرة عن الرؤية التي تقدمها القوى الإقليمية تجاه أفغانستان، وهي الاستقرار من أجل الاقتصاد. فقد أكد الزعيم الصيني أن أفغانستان جزء مهم من أمن المنطقة، وهو يدرك خطورة الابتعاد عن حركة “طالبان” بينما الجماعات المتطرفة الصينية لديها معسكرات داخل الأراضي الأفغانية. وكذلك أيضاً تمثل الممرات البرية لأفغانستان ومناجمها أمراً حيوياً لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

كما أن أفغانستان تدخل في نطاق التنافس بين الصين والهند، فكلا القوتين الاقتصاديتين تسعيان للسيطرة على قطاع التعدين في أفغانستان، بخاصة مناجم النحاس والليثيوم، واستخراج المعادن الحيوية في دعم صناعتهما. وهو ما يفسر اهتمام الهند بالموانئ الإيرانية الجنوبية للوصول إلى أفغانستان، وفي المقابل اهتمام الصين باستراتيجية العلاقة مع باكستان العدو للهند والبلد المجاور لأفغانستان.

ويبدو أن الجميع يسعى الآن لرفع العقوبات المصرفية والمالية عن أفغانستان، على الأقل في المرحلة الأولى من أجل ضمان مكاسبه من الاستثمار في قطاع التعدين الذي يمثل فرصة لدعم الاقتصاد الأفغاني. فقد كشفت وزارة التعدين والبترول الأفغانية عن استثمارات تركية وإيرانية وبريطانية لاستخراج خام الحديد من منجم غوريان في ولاية هرات الذي تبلغ مساحته ألف كلم مربع. كما أن روسيا تسعى أيضاً إلى إدخال أفغانستان ضمن مشروعها الاستراتيجي ممر شمال-جنوب الذي يهدف إلى نقل تجارتها ونفطها وغازها من الشمال إلى الجنوب عبر هذا الممر الاقتصادي.