لم يكن حفل افتتاح أولمبياد باريس مجرد افتتاح عادي لفعالية رياضية عالمية.
فالجدل الحاد الذي يدور حوله اليوم نابع من كون الحفل باقة معقدة من الرسائل والرموز التاريخية، والثقافية، والفلسفية، والفنية، والرياضية.
لا أستطيع القول إن الرسائل كانت منتقاة لتقديم رسالة أيديولوجية معينة، لأن الرسائل في حد ذاتها آتية من أزمنة تاريخية مختلفة، وتعبر عن قيم متعددة. لكن ما يجمع بينها هو الجرأة، وتحدي السائد، والإيمان بالتغيير والتنوع.

 

 

مشهدان لفتا انتباهي، الأول لصورة الجسد ذي الرأس المقطوع الذي يغني (المقصود به ماري أنطوانيت)، ومشهد الفتاة التي تعبر نهر السين على ظهر الحصان الإلكتروني (المقصود بها القديسة جون/ جان دارك).
القديسة جون فتاة قادت حركة مقاومة الاحتلال الإنكليزي لفرنسا في القرن الخامس عشر، وتعد أول رمز للنزعة الوطنية وتحدي فكرة الإمبراطورية المسيحية العابرة للأوطان.
قصة ماري أنطوانيت معروفة، لكن التركيز على مشهد قطع رأسها تأكيد على التمسك بميراث الثورة الفرنسية بكل جوانبه البيضاء والحمراء.
المشهد الثالث الذي أثار غضب اليمين شرقًا وغربًا هو مشهد عرض الأزياء والرقص الذي قدم من خلال مجموعة من المتحولين وأفراد مجتمع الميم، والـDrag Queen (رجال يرتدون ملابس نسائية في أعمال درامية كوميدية ساخرة).
من وجهة النظر التقدمية، المشهد تأكيد على تعددية فرنسا، وقبولها بالتنوع والقبول بكل الهويات. لكن من وجهة نظر اليمين المسيحي كان المشهد استدعاء للرموز الشيطانية والسقوط الأخلاقي، وتكريس أجندة الـWoke culture (أن تكون يقظًا ضد الظلم والتمييز العنصريين).
ورغم اعتراضي على كثير من جوانب woke إلا أن رد الفعل اليميني جاء متشنجًا وطفوليًا أمام مشهد فني له تفسيراته المختلفة.
إضافة إلى الصعود الكبير لليمين الغربي المستند للقيم المسيحية، يعود جزء من غضب الناس في الغرب من مشهد عر ض الأزياء إلى إحساسهم بكثافة المواد الإعلامية عن المثلية والمتحولين، وإلى أنهم مجبرون على استقبال هذه الرسائل رغمًا عنهم.
وفي حين لا يمكن إنكار استغلال قضايا المتحولين، ومجتمع الميم، من قبل اليسار الليبرالي الغربي، متحالفًا مع الرأسمالية الصحوية/woke capitalism، إلا أن خطاب الكراهية ضد مثل هذه الفئات المضطهدة لا يمكن قبوله.
فالمتحولون وفئات مجتمع الميم لا تزال معرضة للاضطهاد والعنف والإلغاء شرقًا وغربًا. والاعتراف بحقوقهم لا يعني بالضرورة أن يكون الجميع مثليين، أو متحولين.
أما بالنسبة لليمين الإسلامي، فقد تشابه رد فعله مع رد فعل اليمين المسيحي، مع نغمة الاستبشار التقليدية بقرب سقوط الغرب.
يتابع اليمين الإسلامي النقاشات الغربية حول قضايا الأقليات الجنسية والعرقية والصراع الغربي ــ الغربي حول حرية التعبير، ولا يجد موقفًا مريحًا له غير الرفض الكامل للانخراط في النقاش من ناحية، والانجرار نحو نظريات المؤامرة وطروحات السقوط الأخلاقي الوشيك للغرب من ناحية أخرى.
الآن، هل صحيح أن المشهد كان سخرية من لوحة “العشاء الأخير” لدافنشي التي صور فيها المسيح والحواريين قبل أن تتم خيانته؟
رأى كبار اليمين الغربي في المشهد إهانة للمسيحيين. لكن هل تعد السخرية من الأعمال الفنية إهانة؟ ينسى رموز اليمين الغربي وإعلامه أن اللوحات الفنيّة ليست مقدسة، حتى لو تناولت شخصيات وموضوعات دينية. وكما اعترضوا على الحوادث الإرهابية التي استهدفت مجلة “شارلي إيبدو” بسبب رسوماتها الساخرة من الرسول محمد، فالأحرى بهم التناغم مع المنطق نفسه، وإقرار حق الفنانين الذين صمموا العرض الافتتاحي للأولمبياد في التناول الفني للأعمال الدينية، اقتباسًا ومدحًا وسخرية وتحويرًا.
على ذلك، هل يتوجه الغرب إلى جو فكري معاد لحرية التعبير شبيه بالجو الذي ساد بلادنا العربية في زمن الصحوة؟
لا أعتقد ذلك. فعبقرية النموذج الغربي تكمن في استيعاب كل الأطراف، من أحبوا العرض، ومن كرهوه، فهم موجودون معًا، ويمتلكون كامل الحرية للتعبير والفعل من أجل التعايش تحت سماء واحدة.

* كاتب وصحافي من اليمن.