لن يكون من قبيل المبالغة القول إن نتائج حرب غزّة 2023 سوف ترسم صورة المنطقة ومستقبلها لعقود عديدة مقبلة، وأن أهميتها لن تقلّ فعليًا عن أحداث كبرى غيرت وجه المنطقة والعالم، مثل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والغزو الأميركي للعراق 2003، وثورات الربيع العربي 2011. عندما غزَت الولايات المتحدة العراق، انهار النظام الإقليمي الذي كان قائما على موازين قوى دقيقة بين إيران وإسرائيل والعرب، حيث تمكّنت إيران من تعزيز نفوذها بقوّة مستفيدة من الأخطاء الأميركية في المنطقة ونكبة العرب في العراق. كذلك إسرائيل استفادت بشدّة من انهيار العراق وخروجه من ميزان القوى العربي – الإسرائيلي، وكان هذا ثاني إنجاز تحقّقه بهذا الاتجاه بعد خروج مصر باتفاقية كامب ديفيد (1978)، ثم اتفاقية السلام (1979). أثرت ثورات الربيع العربي أيضا في موازين القوى الإقليمية في أكثر من اتّجاه، فمن جهةٍ، أخرجت ثالث قوة عربية رئيسة (سورية) من موازين القوى مع إسرائيل، وصارت سورية، بسبب سوء إدارة نظامها الأزمة فيها، ساحة مستباحة تتقاتل فيها إيران وإسرائيل، بعد أن كانت فاعلا رئيسا في قضايا المنطقة. من جهة ثانية، ونتيجة فشل الثورات وانهيار دور الجمهوريات العربية (سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن والسودان)، صارت دول الخليج العربية صاحبة النفوذ والتأثير الأكبر في المنطقة العربية، وهي عملية بدأت، على أي حال، منذ الصعود الكبير في أسعار النفط عام 1973، واستمرّت على مراحل مع انهيار أدوار القوى المركزية العربية (مصر، ثم العراق، وأخيرا سورية).

سوف تكون لحرب غزّة، على الأرجح، تأثيرات عميقة مماثلة ليس من السهل حصرها، فهي وإن كانت أول حرب فلسطينية – إسرائيلية، بمعنى الحرب، حيث يكتفي العرب بدور المتفرّج، إلا أن تداعياتها سوف تطاول المنطقة والعالم، ربما. سوف يبدأ التغيير من إسرائيل، حيث يتوقّع أن تسقط حكومة بنيامين نتنياهو في اليوم الأول بعد انتهاء الحرب وتأخذ معها كل معسكر اليمين. وإن كان هذا لن يؤدّي إلى إحياء دور اليسار الصهيوني، الذي انهار تماما، فهو سيصبّ، على الأرجح، في مصلحة يمين الوسط. وسوف تتم إقالة أغلب قادة الجيش (بمن فيهم رئيس الأركان، وقائدا المنطقة الجنوبية وسلاح الجو)، وقادة كل الأجهزة الأمنية (المخابرات العسكرية “أمان” والمخابرات العامة “الشاباك” والمخابرات الداخلية “الشين بيت”، وربما أيضا رئيس الموساد)، باعتبارهم مسؤولين مباشرة عن “كارثة” 7 أكتوبر/ تشرين الأول. سوف تؤثّر الحرب بشدّة أيضا في المجتمع الإسرائيلي وتوجّهاته، نحو الاقتناع بأن لا حلّ أمنيا للصراع مع الفلسطينيين، أو نحو مزيد من التطرّف.

سوف يطاول التأثير حتمًا السلطة الفلسطينية، وحركة حماس، ومجمل الوضع الفلسطيني (وهذا من المبكّر تناوله). سوف تؤدّي الحرب، أيضا، على الأرجح إلى خسارة الرئيس الأميركي بايدن الانتخابات المقبلة، فالعرب والمسلمون، ونسبة لا بأس بها من الأفارقة، الذين يكثر وجودهم في الولايات المتأرجحة التي فاز بها بايدن بصعوبة عام 2020، مثل جورجيا، وويسكنسون، وبنسلفانيا، وميتشغان، لن يصوّتوا له، على الأرجح، بسبب موقفه اللاأخلاقي واللاإنساني من الحرب على غزّة. ومثلما أدّت الحرب إلى اسقاط وزيرة داخلية بريطانيا، ذات التوجهات العنصرية، سويلا برافرمان، يرجّح أن تتسبب في سقوط آخرين في دول أوروبية أخرى، مع بروز مواقف رسمية أوروبية أكثر توازنا، في المقابل (أيرلندا، وإسبانيا، وهولندا، والنرويج، وبلجيكا، وغيرها).

كشفت حرب غزّة، بسفور، عن تحالف اليمين القومي الهندوسي الحاكم في الهند (حيث جاءت أكثر الحملات المعادية للفلسطينيين) مع قوى اليمين الإسرائيلي، وسيكون لنتائج الحرب تأثير كبير بهذا المعنى على مشروع المعبر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الإسرائيلي الذي جرى إطلاقه في قمّة الـ20 في نيودلهي، في سبتمبر/ أيلول الماضي. قد تعطّل حرب غزّة المشروع وقد تدفع به إلى الأمام، وهذا يعني وجود مصلحة حقيقية للصين وتركيا وإيران في فشل الحرب الإسرائيلية على غزّة، لأن البلدان الثلاثة تعدّ الأكثر تضرّرا من مشروع المعبر الاقتصادي، إلى جانب مصر طبعا. بالمطلق، ومهما كانت نتيجة حرب غزّة سوف تكون لها تداعيات كبيرة على مسار التطبيع بين العرب وإسرائيل، والأهم أنها أسقطت كل الأوهام عن إمكانية تهميش القضية الفلسطينية أو تجاوزها لدى محاولة ترتيب أوضاع المنطقة.