إذا صحَّ أننا لا نكتب إلا تحت تأثيرٍ ما، فالكتابة عن أحوالنا في المشرق العربي كتابةٌ تحت تأثير الفواجع، ولا تخلو في بعض الأحيان من شحنة انفعالية عالية. والكتابة كما هو معلوم صيرورة وانفتاح على العالم ووقوف على العتبة، وهي في حالتنا عندما تتوخى الحديث عن سلطات الأمر الواقع الرابضة على حياتنا ستكون مشوبة بالاحتقار والغضب، فالأمر جللٌ ولا تُسعفنا فيه أي بلاغة.

*****

لا يَخفى على أحد ربما أن الأحوال السياسية في المشرق العربي مفجعة وكارثية وتُبشّر بالمزيد من الآلام والعذابات، وأننا نعيش الفواجع وهي تعيش فينا، وأن من يقرأ ويكتب «يعيش بأعين الفاجعة» حسب تعبير موريس بلانشو، فما بالك إذا كانت الكتابة عن سياق معجون بالمخاوف والأخطار؟

*****

فُجعنا في المشرق العربي بتيارات وأنظمة سياسية أمنية كانت السبب الأساسي لجعلنا كائنات «تحت سياسية» أو مَقصية عن السياسة، والحال أن ثورات الربيع العربي الحالمة بالحرية كانت في أحد وجوهها إعلانَ قطيعة مع تلك الأنظمة والتيارات، وحرباً على الأنظمة القائمة من خارج الأنظمة، لكن ما تبيّنَ لاحقاً أن حلم الحرية والمواطنة تمّ، في أحسن الأحوال، تأجيله إلى أجل غير مُسمّى.

*****

تُضيِّقُ الفاجعةُ الخِناقَ علينا وتُمسكنا من تلابيبنا، وفي الآن نفسه تَفتحُنا على أفق مترامي الأطراف وتلقي بنا في متاهة تأويلية لا حدود لها. هي نهمة ومتمنِّعة، لا تستثني أحداً ولا تعرف الارتواء، وهي ليست مجرد رمز أو استعارة أو مفهوم، إذ لا يحدّها شيء ولا يحيط بها معنى، لكنها «كلٌّ جامعٌ للكلمات». إلا أن الفواجع التي نعيشها لها منطقُها الخاص وأسبابُها المتعددة، إذ تقف خلفها تيارات سياسية ودول وأنظمة وميليشيات.

*****

نعلم أن أطرافاً متعددة هي المسؤولة عمّا نعيشه من فواجع، وأننا نحتاج إلى العودة في الزمن لنتكلم عمّا أسَّسَ لهذه الفواجع، إلا أن الحديث في هذا السياق يتركز في زمننا الراهن على محورين اثنين؛ من جهة، إسرائيل وحلفاؤها، ومن جهة أخرى إيران وحلفاؤها.

*****

ما فعلته إسرائيل منذ عملية السابع من أكتوبر الحمساوية التي انفتحت بعدها أبواب الجحيم لا يمكن الإحاطة به، ليس لأنه ما زال مستمراً فقط بل لأنه كارثي وتدميري ومهول أيضاً؛ آلاف القتلى والمصابين والمهجرين، اجتياحات في لبنان وغزة لا نعلم حدودها، ودمار طال العمران والأجساد والأنفس، فإسرائيل بارعة في الانتقام وسياسة كسر العظام، لكن الحكاية لم تبدأ في السابع من أكتوبر ولا تنحصر في غزة ولبنان، إذ لطالما كانت إسرائيل دولة ذات سياسة ذرائعية، وتردُّ الصاع أضعافاً مضاعفة، لذلك فإن اعتمادها السلوك الحربي ليس جديداً، وما تقوم به ليس مُستغرباً بل مُداناً.

*****

ثمة هيمنة وفائض من القوة في يد إسرائيل، وهما لا يتأتيان من تفوقها العسكري والتكنولوجي ودعم أميركا غير المحدود لها وحسب، بل من ضَعف محيطها وهيمنة منطق الدولة الأمنية عليه، ومن ثم انحلال الدول بطريقة ما إلى ميليشيات وسلطات أمر واقع. وما يزيد الأمر بؤساً أنه لا شيء يُبشّر بأن الحرب والانسداد السياسي الحاصل سيؤولان إلى حلول تضمنُ حقَّ شعوب المنطقة بالعيش الكريم، إنما في الغالب إلى تكريس ثقافة القتل ومنطق القوة والبطش، خصوصاً بعد الأحقاد الجديدة القديمة التي بلغت ذروتها مرة أخرى.

*****

لا شكَّ أن أحد المسؤولين أيضاً عمّا نعيشه هو محور «المقاومة» الإيراني الأسدي وميليشياته الطائفية؛ لنتذكر فقط احتلال إيران للعراق وسوريا ولبنان واليمن بطرق مباشرة وغير مباشرة، وكيف شاركت الفصائل الإيرانية وحزب الله منذ بداية الثورة السورية في قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم.

*****

ما يفرضه محور «المقاومة» لا يقتصر على الصمت، فهو يُحدّد أو يفرض على الناس الكلام أيضاً، وما على كلامنا إلا أن ينتظم ضمن ممارساته الخطابية الممجوجة. بل علينا فوق كل شيء أن نتحمّل، تَجنُّباً للمزاودات والتخوين، كُلَّ الفواجع الناتجة عن رؤاه الحتمية القطعية، وعن عقلية الإقصاء وضيق النظر والانجرار وراء الحماسيات والبطولات الوهمية، علينا ألا ننتقد الأنظمة العسكرية الأمنية والإسلام السياسي، علينا أن «نبصم بالعشرة» لمحور «المقاومة» ومنطق قوته ومواصلته التشدّق بخرافة تحرير فلسطين… باختصار، علينا أن نكون مجرد رعايا فرحين بما أنزلته علينا عقلية التشبيح والإقصاء، فلا يمتلك هذا المحور إلا «الحق» و«الحقيقة»، ولا خيار لنا إلا الرضوخ لمشيئته، المُتمثّلة في جعلنا مجرد رعايا لحاكم هووي.

*****

في التسمية محنةٌ لم نكتشف بعدُ كل الضرر الكامن فيها، هي استراتيجية هيمنة تَدّعي البداهة وتُخفي أسلوب عملها، وما اصطلح على تسميته من ممارسات سياسية وعسكرية وإيديولوجية بعامة هي ممارسات أقل ما يقال عنها إنها مسمومة ومُخدِّرة.

ما يسمّيه حزب الله في لبنان عمالةً يرتبطُ عنده فقط بالعمالة لإسرائيل أو «الغرب» عموماً، متفاخراً في الوقت نفسه بأنه ذراع للنظام الإيراني، وما يمارسه في سياسة لبنان الداخلية والخارجية يسميّه سياسة وطنية، وما يمارسه من قتل وتدمير يسميّه مقاومة ونضالاً، أما نظام الأسد فسمّى الثورة حرباً على سوريا، والمتظاهرين جراثيم وعملاء للغرب، والمعارضين مغرضون وزارعو فتن.. ما نتكلم عنه هنا مشروع ذُقنا من آثاره التدميرية ما لا يكفي مقالٌ لذكره، والحرب معه في أحد أبعادها حرب تأويلية لا يمكن الاستخفاف بها، فرغم كل شيء يزعم أصحاب هذا المشروع أن الاستعارات المنهكة أو الميتة والمستنفذة في خطابه السياسي تمتلك قدرة تخييلية وتفسيرية تُنمّي اللغة وتصف «الواقع» أو «الحقيقة». ولكن، لأنه لا وجود لمفاهيم أو مقولات محضة أو بريئة، فجُملة المفاهيم التي يعتبرها محور «المقاومة» أمراً مُسلَّماً به، خصوصاً تلك التي تحتل مكانة مركزية لديه كمفهوم «المقاومة» نفسه، تصل كما يتأوّلُها ويُمليها علينا إلى حدود الانتهاك لشكل الحياة الحر.

*****

ليس لمحور «المقاومة» إرادة اقتدار تدعو لحياة أو انتماء أو حسّ مدني كوني أو محلي، وهو لا يدعو ولا يدافع عن أي مشروع مواطنة، إذ ليس لديه إلا إرادة سلطة تقف خلفها رؤية نكوصية للإنسان والحياة عموماً… وإذا أردنا أن نأخذ الأمور خطوة أخرى، علينا أن نسأل:

إذا اختفى العدو الذي يمثل «الشر» في الخطاب السياسي لمحور المقاومة، ما الذي سيبقى من خطابه؟ العدو عنده ليس عدواً بالمعنى السياسي للكلمة، هو نقيضٌ «شريرٌ» وتَمثُّلٌ شيطاني، بل هو «شرير» بطبعه أو هو «شرير» من حيث هو آخر، ولا يستحق أن يتم التعامل معه ككائن سياسي، ومحور «المقاومة» هو تجسيدُ «الخير»، ولكن ألا يفقد هذا «الخير» مبرر جميع سياساته باختفاء نقيضه «الشرير»؟ من سيقاتل بعد أن ينتهي من عدوه اللدود؟ ألا يعتاش هذا المحور على الحروب أساساً؟

*****

رغم كل التوضيحات الممكنة وبعد كل حساب، لن نتخلّص من مهاترات التخوين وتُهمَ العمالة، كأننا أمام امتحان للوطنية ننتظر بعده توزيع الشهادات. سنجد دائماً أصواتاً تقول إن نقد محور «المقاومة» الإيراني اصطفافٌ مع إسرائيل، أو في أحسن الأحوال لا وقت له فـ«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع إسرائيل» في اعتبارهم، لكن هذه الأصوات تجعل التساؤل عن خطرها نفسها أمراً ذا وجاهة، فمن لا يستطيع أن يرى الخطر إلا في الجانب الإسرائيلي رغم كل القتل والدمار الذي أحدثه محور «المقاومة»، سيكون خَطَراً مُضافاً للخطر الإسرائيلي نفسه.

ما نشير إليه، بصيغة أخرى، أن ما فعله ويفعله محور «المقاومة»، الذي فقدت هذه الكلمة بريقها في أنفسنا بسببه، ليس أقلّ خطراً من سياسات إسرائيل، فحسبُنا ما فعله في سوريا من قتل وتدمير، ناهيك عن العراق ولبنان واليمن.

*****

في سوريا لم نُفجَع فقط بنظام أوصلنا إلى ما نحن فيه؛ الأمر معقد ويزداد تعقيداً وصعوبة في كل مرحلة، فسوريا ترزح تحت احتلالات متعددة ولا تلوح في الأفق أي حلول سياسية. نحن في حِداد عميق على النفس، وما نكتبه عن أنفسنا يتضمن نوعاً من الرثاء والتدرُّب على الموت، ولعلّنا حتى كأفراد فقدنا الكثير من قدرتنا على المقاومة وأُصبنا بنوع من العطب واليأس، فما نستطيع فعله لا يتعدى في أحيان كثيرة تصريف جملة من المشاعر وضروب الوجدان، وكذلك امتحان لصلاحية الانتماء، أي لصدقه أمام نفسه. وما عشناه ليس مجرد خسارات صغيرة، بل سلسلة من الهزائم والخسارات المفجعة المتلاحقة، التي جعلت جميع أسئلتنا عن شكل الحُكم في كثير من الأحيان أسئلة بائسة رغم كل وجاهتها، والأدهى ربما أن كثيرين منا يعيشون في صمت مطبق لأسباب عديدة يُشكّل الترهيب واليأس أبرزها.

*****

تحت كُلّية الفاجعة نتلمّسُ ما هو مأساوي ومفزع ومريع ورهيب وكارثي ودموي وتدميري، وما هذه إلا أسماء أخرى للسياسة في أُفق أنفسنا المحكومِ بالفواجع، لذلك فإن الحديث عن الفاعلية السياسية في منطقتنا حديث شجون، بل إن الحديث عن أحوالنا عموماً حتى من منظور جمالي سيكون حديثاً مريراً كيفما تأوّلنا الجمال. والحال أن ما بقي من الجماليات المعاصرة هو الرائع، والرائع كما الجميل يقال على معان عدة، فهو يتضمن معاني السمو والرِفعة والعظمة والكثرة والفخامة والغرابة والفزع والهلع والترهيب والترغيب والروعة والترويع، وهو أيضاً المَقصي والهامشي والمُلحَق والمُضاف، هو ما يقف ضد الجبروت والهيمنة ويُخلخل أي نسق أو نظام… فعن أي سياسة نتكلم؟

مقالات مشابهة