ملخص
فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية يعود لتركيزه على القضايا الاقتصادية التي تهم الناخبين الأميركيين لكن نهجه الشعبوي والحمائي سيحمل تبعات سلبية داخل أميركا وخارجها

ها قد عاد، من دون أي ضوابط. سواء أعجبكم الوضع أو لم يعجبكم سيحكم دونالد ترمب الولايات المتحدة للأعوام الأربعة المقبلة. لو كنت أوكراني الجنسية، لشعرت بقلق عميق حقاً.

لماذا فاز ترمب؟ “إنه الاقتصاد يا غبي”، كما تقول العبارة المبتذلة. لكن إن صحت أفظع المزاعم التي أطلقها خصومه، فإن أميركا انتخبت رجلاً نعتته كامالا هاريس بـ”الفاشي” ليحكم البيت الأبيض. إن كانت الديمقراطية نفسها هي التي طُرحت على أوراق الاقتراع، فإن عدداً كبيراً من الأميركيين اختار أن ينبذها.

من باب الإنصاف، يمكن أن نفهم سبب هذه الخطوة. فالاقتصاد كذلك كان مطروحاً بالفعل على بطاقة الاقتراع، وقد أجاب الناخبون عن سؤال طرحه ترمب غالباً “هل أنتم أفضل حالاً الآن مما كنتم عليه منذ أربع سنوات؟” وكانت إجابتهم المدمرة “لا”.

سواء كان ذلك منصفاً أو لا، لم تملك حملة هاريس أي شيء تدافع به عن التضخم الذي حل بالبلاد خلال الأعوام الأخيرة، ولو عبّرنا عن الموضوع بأكثر الطرق فجاجة، سنقول إن أسعار الوقود غلبت الحق في الإجهاض. قال باراك أوباما إن سبب تدني أسعار الوقود إلى هذه الدرجة قبلاً هو أن لا أحد كان يقود السيارات أثناء الجائحة. وهذا صحيح، والأمر نفسه ينسحب على فواتير الطاقة والمواد التموينية، لكن الشعور بالضائقة الاقتصادية في تلك “الولايات المتأرجحة” في منطقة الجدار الأزرق التي تصوت عادة للديمقراطيين، ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا، كان أعمق وخيبة أملهم بالديمقراطيين أكبر من أن تتخطاها هاريس.

 

الصحف الأوروبية: عودة ترمب تشكل كارثة للديمقراطيين
من ناحية أخرى، استخف الديمقراطيون كذلك بعامل الخوف من الحدود الجنوبية والهجرة. سواء أكانت المسؤولة الأولى عن حماية الحدود أو لا، اضطرت هاريس إلى تحمل المسؤولية عن هذه القضية أيضاً.

في الواقع، سجلت إدارة بايدن وهاريس إنجازات قوية في ملفات الوظائف والنمو وقد خفضت مستوى التضخم، لكن كامالا هاريس عجزت عن “التسويق” لهذه الإنجازات لأن عدداً كبيراً من الأميركيين متضرر حقاً من أزمة غلاء المعيشة التي تمتد إلى غلاء المساكن.

رأى ترمب في الاقتصاد القضية الأساسية، وضغط في هذا الاتجاه. قدّم خطة نوعاً ما، من أجل استعادة الوظائف والازدهار: وهي الحمائية. وطرحت هاريس بدورها خطة للاستثمار، لكنها لم تتمكن من الفوز في هذا الجدال. وفي المقابل سوقت حملة ترمب لأكاذيب حول تحويل أموال الإغاثة من أضرار السيول والفيضانات إلى المهاجرين غير الشرعيين، ولم يحاول إيلون ماسك احتواء تدفق المعلومات الكاذبة والمغلوطة على وسائل التواصل الاجتماعي التي يبدو أن معظمها صادر بخبث من دول خارجية، لكن التجربة التي تعيشها العائلات الأميركية هي التي وقفت عقبة بوجه الديمقراطيين في النهاية.

ربما، لو أتيح لهاريس متسع أكبر من الوقت كي تقدم نفسها إلى الشعب الأميركي، ولو انسحب جو بايدن في وقت أبكر، كانت النتيجة ستختلف بعض الشيء؛ لكن من ناحية أخرى، ربما لم يكُن ترمب ليحرز التقدم نفسه الذي يُزعم بأنه أحرزه مع الرجال السود الأصغر سناً والناخبين اللاتينيين. ربما إن أتيح الوقت اللازم لتنظيم سباق ملائم من أجل اختيار مرشح عن الحزب الديمقراطي كان الأمر سينتهي بوجود مرشح أقوى لا يثقل كاهله سجل إدارة بايدن وهاريس ويتمكن من الفوز على ترمب. لكن هذا السيناريو غير مؤكد، نظراً إلى هامش الفوز وسياق الأعوام الأخيرة. كانت الرغبة قوية في إعادة ترمب والاستياء من سجل بايدن أكبر من أن يُعالج.

فلتعودوا بالذاكرة قليلاً، بعد أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وصدور حكم الإدانة بحقه، وكل القضايا القانونية العالقة، بدا فعلاً أن حقبة ترمب أفلت إلى غير رجعة. لكن ها قد حقق أكبر عودة منذ عودة أليعازر من الموت (أو أقله منذ غروفر كليفلاند عام 1892). مع أن حملته لم تكن بناءة وتنويرية بصورة خاصة، من “الدعابات” حول مواطني بويرتو ريكو إلى الاستهزاء بكامالا هاريس و”مستوى ذكائها المنخفض”، والزعم بـ”أنهم يأكلون الحيوانات الأليفة” في سبرينغفيلد، أوهايو.

عاش الأميركيون تجربة ولاية ترمب الأولى. وهم يعرفونه جيداً، دخل الرجل عالم السياسة منذ 2016 وهو شخصية مشهورة ومعروفة جيداً منذ عقود. في بداية حملتها الانتخابية، قالت هاريس إنها تعرف “صنف الأشخاص” الذي ينتمي إليه ترمب، حسناً، معظم الأميركيين يعرفونه كذلك… ويبدو أنهم غير معترضين عليه.

وفيما يعدّ الرجل مستبداً بطبيعته، يبدو أن حزب ترمب الجمهوري، أو بالأحرى، طائفة “ماغا” التابعة له شخصياً، سيسيطر كذلك على مجلسي الشيوخ والنواب. ونعلم كذلك، بسبب سلسلة التعيينات الشخصية التي قام بها في المحكمة العليا خلال ولايته الأولى، بأنه حاصل أساساً على “الحصانة المشروطة” qualified immunity التي تشكل سداً منيعاً أمام محاكمته على أي تصرفات قام بها يمكن الاعتبار أنها وقعت أثناء تأديته مهماته التنفيذية. يبدو فعلاً أنه سيتمكن من الإفلات من العقاب في مختلف القضايا العالقة ضده.

ولن يحكم ترمب أميركا وحده، إذ سنرى إيلون ماسك (“أصبح لدينا النجم الجديد إيلون” كما صرح ترمب في خطاب فوزه المبكر) وجي دي فانس اللذين سيؤججان الكراهية بدورهما. سيُفتح الطريق أمام تحقيق ما يسمونه “مشروع 2025″، وهو أجندة مرعبة لديكتاتورية انتخابية.

تعرضت الحقوق الإنجابية للمرأة الأميركية للهجوم أساساً، وسيستمر الأمر على هذا المنوال، قمع الناخبين وتآكل الحقوق المدنية المُكتسبة بشق الأنفس وتعيينات إضافية في المحاكم ومزيد من التنمر على الإعلام وازدراء أشد للمواطنين الأميركيين الآخرين. لن تندلع حرب أهلية ثانية لكن ستتواصل جهود طحن الدستور الأميركي، وتحصل ملايين عمليات الترحيل القسرية، إن صدق الرجل في الوعد الذي قطعه. وستشهد البلاد فوضى وناراً وغضباً كما حصل في ولاية 2017-2021.

عندما يحين وقت الاختيار عام 2028، يتساءل المرء إلى أي مدى سيكون خياراً حراً ونزيهاً. من الأرجح أنه سيحصل في وقت لن تعود فيه الحريات التي تعتبر من المسلمات الآن كاملة بالقدر نفسه، في دولة واقعة تحت سلطة حكومة قومية مستبدة. إن النزعة الأهلانية [نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح المهاجرين] والحمائية والشعبوية ليست من علامات الديمقراطية الناضجة والصحية.

والمفارقة الساخرة الرهيبة الآن هي أن سياسات ترمب، وفي صلبها فرض الرسوم الجمركية على الاستيراد والسيطرة على الاحتياط الفيدرالي، ستضاعف التضخم وتؤدي إلى خسارة الوظائف على المدى البعيد، علاوة على إضعاف الدولار. كما أن أي دولة من دول العالم لديها تعاملات تجارية مع أميركا تحتفظ بالدولار باعتباره عملة احتياطية ستتضرر، وتعتبر الحرب التجارية مع الصين والركود التجاري العالمي من أسوأ نتائج هذه العملية. سيتخلى ترمب عن أوكرانيا ويتركها لفلاديمير بوتين في أكثر مشهد استرضاء مخزٍ منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

أما في الشرق الأوسط، وربما في تطور صادم للعرب الأميركيين الذين صوتوا له، سيطلق ترمب العنان لبنيامين نتنياهو، وقد تنشب في هذا الإطار أيضاً حرب بالوكالة على إيران. ستتدهور العلاقة مع حلفاء “الناتو” لتصل إلى درك أسفل جديد، حتى لو سدد هؤلاء مستحقاتهم في مجال الدفاع عن الغرب. في نهاية المطاف، لن يدافع ترمب عن دولة مغمورة في شرق أوروبا لا يمكنه إيجادها على الخريطة. سيصبح الحلف الأطلسي العظيم في النهاية مجرد علاقة شكلية في أفضل الأحوال. ولا ريب في أن التوتر مع الصين في شرق آسيا والمحيط الهادئ سيزداد ويشتد- حتى بعد تجديد علاقة الود الغريبة بين ترمب وكيم يونغ أون.

باختصار، سيجعل ترمب العالم مكاناً أفقر وأكثر زعزعة، وسينشب مزيد من الحروب. وبالمناسبة، فإن القضية التي لا تُذكر بما فيه الكفاية أيضاً هي الضرر القاتل الذي سيلحق بالاتفاقات العالمية حول تغير المناخ.

اختار الأميركيون مساراً مظلماً. ولا شك في أن هذا هو شأنهم الخاص، وإنه لتصرف فيه تعالٍ لا يُطاق أن يملي عليهم الأجانب اختياراتهم. لا بأس. لكن مصير الولايات المتحدة يؤثر إلى أبعد الحدود في باقي العالم، ومن الصعب أن نرى نهاية جيدة لهذه الأحداث. بعد أربعة أعوام من حكم ترمب، قد لا يعود لدينا سلام أو أمن يذكر.