ما بين الوجود الكردي شمال شرق سوريا، وقاعدة التنف الأميركية جنوب شرق البلاد، ومعبر البوكمال بينهما، منطقة شرقية استراتيجية تحد سوريا مع تركيا والعراق والأردن، تزاحمت عليها القوى الدولية لبسط سيطرة سياسية وعسكرية تمنحها أفضلية في منطقة الشرق الأوسط، كون هذا الخط الحدودي يفصل ما بين الخليجين العربي والفارسي، وبلاد الشام شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
يتصدّر الأكراد المشهد الشرقي، وتُسيطر الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، وذراعها العسكرية قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، بدعم أميركي، على الحسكة التي تحد تركيا والعراق، وكانت تبسط سلطتها على دير الزور التي سيطرت على جنوبها إدارة العمليات العسكرية قبل أيام. الشمال الشرقي السوري منطقة غنية بالنفط، كان الأكراد قد خاضوا معارك مهمة ضد “داعش” فيها قبل سنوات.
يولي الأكراد أهمية قصوى لهذه المناطق الغنية بالثروات الطبيعية، كونها امتداداً جغرافياً طبيعياً لوجودهم في إقليم كردستان في شمال العراق، وجزءاً من مشروعهم الأوسع كدولة كردية في المثلث الواقع بين تركيا وسوريا والعراق، وقد تدخّل الأميركيون ووطّدوا علاقاتهم مع الأكراد بتحالف دولي لمواجهة “داعش” لإرساء موطئ قدم في منطقة نفطية ذات منافع اقتصادية وسياسية.
لم يتوصّل الأكراد إلى تسوية سياسية مع إدارة العمليات العسكرية بعد، والعلاقة “ضبابية” بين الطرفين، وفق ما يقول نورهات حسن، المقيم في إقليم كردستان في العراق، والذي يُشير إلى أن الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها لم تُشكّل وفداً بعد لزيارة القيادة السياسية في دمشق، لكنه يتحدّث عن “نوع من الإيجابية”.
هذه الإيجابية ناتجة من إشارات يلفت إليها حسن في حديثه مع “النهار”، إذ يقول إن الإدارة الذاتية تعتبر أن قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع “لا يكنّ العداء” للأكراد “على عكس بعض الفصائل المقرّبة من تركيا” في شمال حلب، ثم إن الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها كان لها سلسلة تصريحات بشأن “دعم وحدة الأراضي السورية وجهوزية التفاوض مع الشرع”.
وإذ يُراود حلم الدولة المستقلة الأكراد، وتظهر استطلاعات رأي إقليم كردستان العراقي تقدّم دعاة الانفصال، إلّا أن قوام الكيان الكردي المستقل مع شمال شرق سوريا غير متوافر دولياً، وهو ما يوافق عليه حسن الذي أقام في المنطقة ولم يرصد “نزعات انفصالية، بل توجهات نحو دعم وحدة الأراضي السورية والاستعداد لمفاوضات الحكومات، منذ زمن نظام بشّار الأسد حتى اليوم”.
جنوباً نحو محافظتي حمص ودمشق، فإن المنطقتين تخضعان لإدارة العمليات العسكرية بنسبة كبيرة. في حمص موقعان استراتيجيان، الأول هو قاعدة التنف الأميركية الواقعة في حمص عند الحدود بين سوريا والأردن والعراق، والثاني هو معبر البوكمال مع العراق الذي سيطرت عليه فصائل مقرّبة من إيران قبل سقوط النظام السابق، لأنه كان ممر السلاح الرئيسي من العراق نحو سوريا ولبنان.
قاعدة التنف العسكرية الأميركية الموجودة في سوريا هي امتداد لقاعدة التنف في شمال الأردن، كان الهدف منها ترسيخ وجود أميركي عند الحدود الشرقية الجنوبية لمواجهة تحرّكات الجماعات المقرّبة من إيران، علماً أن الهدف المُعلن كان مواجهة تنظيم “داعش” الذي نشط خلال مرحلة زمنية في شرق سوريا قبل أن تتراجع رقعة سيطرته بعد مواجهات مع “قسد”.
أما معبر البوكمال، فهو الممر الاستراتيجي من الخليج والعراق نحو سوريا ولبنان والبحر المتوسّط. تمركزت الجماعات المقرّبة من إيران عند هذه النقطة واستغلته كمعبر إمداد سلاح، وتعرّض للقصف الإسرائيلي مراراً. وبعد سقوط الأسد، انسحبت الفصائل الإيرانية، وحسب حسن، “سيطر جيش سوريا الحرّة المقرّب من التحالف الدولي والولايات المتحدة” عليه.
الاستراتيجية الاقتصادية لا تغيب عن منطقة شرق سوريا، من شمالها نحو جنوبها، وإضافة إلى حقول النفط الموجودة في الشرق الشمالي، فإن نهر الفرات الذي يقسم دير الزور مصدر مائي مهم جداً. جنوباً، فإن المعابر مع العراق والأردن تشكّل منافد سوريا نحو الخليجين الفارسي والعربي، وبالتالي نقاط تبادل تجاري ونفطي وترانزيت.
في المحصّلة، فإن منطقة شرق سوريا استراتيجية من ناحية موقعها الجغرافي، ومن ناحية النفوذ الأميركي القوي، ومن المرتقب أن يكون لها دور كبير في إنماء سوريا اقتصادياً إذا استقر الوضع السياسي، لكنها قد تشهد صراعات في شمالها بين القوات الكردية التي قد تسعى للحفاظ على هامش استقلاليتها من جهة، والحكومة الجديدة التي تُريد فرض سيطرتها على كل الأراضي السورية من جهة أخرى.