صيف عام 2015، قبل شهرين من قرار أنجيلا ميركل عدم إغلاق الحدود في وجه اللاجئين، شاركت المستشارة السابقة في جلسة حوارية مع مواطنين، حيث تحدثت الطالبة الفلسطينية ريم سويحلي عن معاناتها وأهلها من العيش بإقامة «تسامح»، مُهدَّدين بالترحيل منذ خمس سنوات، وعن رغبتها في الاستمتاع بحياتها كزميلاتها. بكت ريم عندما ردت ميركل بأنه ليس بوسع ألمانيا استقبال الجميع، مع إدراكها للأحوال السيئة التي يعيشها اللاجئون في لبنان، وحاولت مواساتها مربتةً على كتفها. حينها، وُصِفت المستشارة بقاسية القلب، وتحولت ريم إلى شخصية رمزية مرتبطة بالتحول الذي شهده موقف ميركل نحو الترحيب باللاجئين، ولو إلى حين. تغيّر الموقف من مسألة اللاجئين بعد عام مع إغلاق طريق البلقان، وعُقِد اتفاق أوروبي مع تركيا يمنع وصول اللاجئين. تغيرت أحوال ريم في السنوات الماضية، إذ حصلت على الإقامة وثم الجنسية الألمانية، لتعود إلى عناوين الأخبار في الأسابيع الأخيرة في ظل حملات الملاحقة والتصيد السائدة، وذلك بعد أن سرَّب أحدهم صورتها الشخصية و«ستوري» من حسابها الخاص على إنستغرام، لتلتقطها صحيفة بيلد الشعبية وتشنّ حملة ضدها، مطالبة عبر تصريحات أخذتها من سياسي من الحزب المسيحي الديمقراطي بسحب الجنسية منها. تظهر  صورة ريم الشخصية خارطة لفلسطين التاريخية يتوسطها العلم الفلسطيني ومصلى قبة الصخرة، والـ«ستوري» المسرّبة تضم شعار «من البحر للنهر»، الذي منعته وزارة الداخلية الألمانية في الأسابيع الأخيرة، معتبرةً إياه معادياً للساميّة وداعماً لحماس. فُسّرت الصورتان على أن ريم، التي خسر أجدادها الحيفاويون وطنهم عام 1948، ترفض الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.

السياسي المحافظ إيكاردت ريهبرغ، والذي رافق ميركل طوال شطرٍ كبيرٍ من مسيرتها السياسية، قال  إن «من لا يتشارك معنا قيمنا، مثل ريم، لا يمكن أن يكون أو يبقى ألمانياً. ربما حصلت على الجنسية زوراً»، معتبراً أن منحها الجنسية كان خطأً ينبغي تصحيحه، وداعياً لسحب جواز السفر والجنسية منها. نواب في البوندستاغ من التيار المحافظ والليبرالي انتقدوا ريم بحدّة على نشاطها، في حسابها المغلق، أمام عموم الناس. إدارة دائرة الأجانب علّقت بأنهم لم يسألوها عن معاداة السامية عند منحها الجنسية. «الاعتراف بالقانون الأساسي (الدستور) كان كافياً».

ما يجري  مع ريم مثالٌ مُعبّرٌ عن انزياح القوى السياسية الألمانية الشديد نحو اليمين خلال الأسابيع القليلة الماضية، إذ رأى الطيف السياسي ردود الفعل المُدينة للاحتفال بهجوم حماس في شوارع برلين، في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، شيكاً على بياض تستطيع من خلاله تمرير سياساتها المناوئة للاجئين والتحريض ضدهم، وربط تنامي معاداة السامية في البلاد بالهجرة واللاجئين. في هذه المادة نحاولُ رسمَ ملامح واقعٍ بشعٍ بعد 7 تشرين الأول وجد فيه مهاجرون ولاجئون إلى ألمانيا أنفسهم فيه، وأسهَم في الإثقال على كاهلهم المضغوط أصلاً بمتابعة معاناة أهل قطاع غزة.

* * * * *

مع استقبال ألمانيا أكثر من مليون أوكراني-ة بعد الغزو الروسي، ووصول أعداد طالبي اللجوء إلى مستوياتٍ مرتفعة مع استمرار تدهور الأوضاع في سوريا وأفغانستان، وتعالي شكاوى البلديات حيال عدم قدرتها على استقبال المزيد من اللاجئين والصرف عليهم، كان النقاش حول الحد من الهجرة «غير الشرعية» حاضراً حتى قبل السابع من تشرين الأول. إلا أن سياسيين، خاصةً المحافظين المتواجدين في المعارضة حالياً، استغلوا زيادةً مُقلقةً لتحقيقاتٍ جنائية متعلقة بمعاداة السامية مؤخراً كحجة للتأكيد على صحة مطالبهم المناهِضة للهجرة واللجوء.

وقد بلغ عدد طلبات اللجوء المسجلة في تشرين الأول (أكتوبر) السابق حوالي 32 ألفاً، وهو أعلى رقم مسجل منذ عام 2016، يوم وصل عدد الطلبات الشهرية إلى 70 ألف، وفقاً لمكتب  الهجرة واللاجئين. وصل عدد طلبات اللجوء منذ مطلع العام إلى حوالي 267 ألف طلب.

وسبق أن طالب الاتحاد المسيحي بوضع سقفٍ لاستقبال اللاجئين، إلا أن ساسته لم يعودوا يعبأون بسقف ما هو مقبول قوله. لم يعد بوسع مُراقب الساحة السياسية التفريق حقاً بين مطالب وتصريحات حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف وبين المحافظين، وحتى يسار الوسط. فبعد أن تسبّبت مطالبة حزب «البديل» قبل سنوات باستخدام العنف ضد مَن يسعون لعبور الحدود بطريقة غير شرعية بفضيحةٍ اضطرت إحدى قياداته للتراجع عن هذا المطلب، يدعو وزير الصحة السابق ينس شبان (المحافظ) لاستخدام العنف الجسدي ضد من يحاول تجاوز حدود الاتحاد الأوروبي، ويُدافع عن تصريحه حتى بعد تعرّضه للانتقاد. فيما بلغ التطرف بهانز-غيورغ ماسن، رئيس الاستخبارات الداخلية السابق، والمنتمي للحزب نفسه، حدّاعتباره أن ألمانيا بحاجة إلى «علاج كيماوي» للشفاء من «أجانب ذوي ثقافة غريبة»، مشبهاً إياهم بالسرطان.

وقد ظهر ينس شبان على قناة  ليتحدث عن كراهية اليهود بوصفها جزءاً من ثقافة المهاجرين، زاعماً أن ألمانيا شهدت هجرة قوية في السنوات الماضية من منطقةٍ تُعدّ معاداة السامية جزءاً من ثقافتها اليومية.. على طاولة الغداء، وفي الكثير من المساجد، ومساءً خلال التجوال. وتساءل ببراءة عما إذا كانوا سيسمحون بالصور القادمة من مظاهرة معادية للسامية (هي في الحقيقة متضامنة مع الفلسطينيين) عند نافورة نيبتونبرونين في برلين لو أن المتظاهرين يمينيون متطرفون تظاهروا مرتدين الجزمات، معتبراً أن قاذفات الماء استُخدمت بسرعة أكبر في مظاهرات كورونا، فلماذا لا تُستخدم الآن؟

ويُظهر تمسك المحافظين، الأعلى صوتاً في اتهام للاجئين بمعاداة السامية، بحليفهم في ولاية بايرن، هوبرت آيفانغر، رئيس حزب الناخبين الأحرار، رغم الكشف عن ماضة النازي  المعادي للسامية مؤخراً، عن مدى مصداقية دعواتهم لحماية الحياة اليهودية. وقد بلغ مستوى المزاودة والتحريض على اللاجئين من الابتذال حد اعتبار آيفانغر نفسه الحياة اليهودية في خطرٍ من معاداة سامية «مستوردة».

«اطردوا المعادين للسامية بدل تجنيسهم»

يطالب الاتحاد المسيحي، أكبر كتلة معارضة في البوندستاغ، التحالف الحاكم  قانون تسهيل التجنيس الذي أقرّه مجلس الوزراء وقدمه في البرلمان قبل السابع من تشرين الأول، مُجادلاً بأن الرد المناسب على «مظاهرات معاداة السامية» و«معاداة السامية المستوردة» ليس في «التجنيس الإكسبريس»، رافعاً  «اطردوا المعادين للسامية بدل تجنيسهم».

وينص ، الذي أُجلت مناقشته في البوندستاغ إلى بداية كانون الأول (يناير) القادم، على منح الجنسية بعد الإقامة لمدة 5 سنوات، وفي حالات الاندماج المثالي بعد 3 سنوات؛ بدل السنوات الثماني في القانون الساري حالياً. ويتضمن المشروع بالفعل رفض منح الجنسية لمن ثبت ارتكابه جرائم تحط من شأن البشر وتلك المعادية للسامية، كما أوضحت وزارة العدل في  بدت تهديدية بعد أيام من 7 تشرين الأول، بعنوان: «لا يُسمح للمعادين للسامية بالحصول على جواز سفر ألماني».

وقدمت كتلة التحالف المسيحي مشروعي قانونين للنقاش في البوندستاغ، بعنوان «مكافحة أشد لمعاداة السامية والإرهاب والتحريض»، لأنه «لا يُطاق ولا يمكن قبول الاحتفاء بحماس ونشر إرهابها ومعاداة السامية، ولا إنكار حق إسرائيل في الوجود أو الدعوة لتدميرها في المظاهرات»، متحدثةً عن رغبتها في سدّ ثغراتٍ في القانون الجنائي متعلقةٍ بمكافحة معاداة السامية (فيما يخص تعكير السلم الأهلي وإعلان التعاطف والتحريض)، وتشديد العقوبات المتعلقة بها، خاصةً فيما يتعلق بتجريم إنكار حق إسرائيل في الوجود.  بعنوان «لإنهاء إقامة ومنع تجنيس الأجانب المعادين للسامية»، تطالب عبره بإضافة فقرة إلى قانون الإقامة تنص على طرد مرتكب أي جريمة معادية للسامية، وكذلك تعديل قانون اللجوء ليؤدي الحكم على مرتكب جريمة معاداة السامية بعقوبة تزيد عن ستة أشهر إلى فقدان حق الحماية الإنسانية. وتطالب أيضاً بجعل الحصول على الجنسية مرتبطاً بالإقرار بحق إسرائيل بالوجود، وأن يُبيّن المُتقدم أن لا مساعيَ لديه ضد وجود دولة إسرائيل؛ على أن يُرفض منح الجنسية لمَن يثبُت أن لديه موقفاً ثابتاً معادياً للسامية. ويتضمن مشروع القانون فقرةً تنص على سحب الجنسية الألمانية من مزدوجي الجنسية في حال ارتكابهم جريمة معاداة سامية عقوبتها السجن مدة عام على الأقل. وبعد قراءة أولية ونقاش في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) في البوندستاغ، حُوِّل المشروعان إلى لجنتي البرلمان المتخصصتين بالقانون والشؤون الداخلية.

ألكسندر تروم، من التحالف المسيحي، قال في  في البوندستاغ: «هذا يعني أن من يتظاهر وينادي بالموت لليهود يفقد حقه في الإقامة. ومن يرسم نجمة داوود على جدار بيت يرتكب إضراراً بالممتلكات، ويحصل على قرار طرد من البلاد. وهنا تسري مقولة ‘لا مكان للمعادين للسامية في مجتمعنا’، ويسري كلام (نائب المستشار روبرت) هابيك: من ليس ألمانياً يخاطر بفقدان إقامته»، في إشارة إلى عبارة وردت في  مثير للجدل لهابيك وجهه للمسلمين في ألمانيا، دعاهم فيه لأداء واجبهم إزاء تزايد اعتداءاتٍ على المجتمع اليهودي في ألمانيا. وأضاف تروم أن قرارات الطرد لن تُؤدي حكماً للترحيل، وذلك لوجود حالات منع ترحيل إلى مناطق معينة، لكن منح الشخص المعني الإقامة سيكون مخالفاً للقانون مستقبلاً، ولن يتم العمل بمدة الحصول على الإقامة الدائمة، ما يعني «تبعات شديدة» للأشخاص المعنيين، ذات أثر وقائي حسبه، وأكثر فعاليةً من القانون الجنائي، إذ قد لا يهتم أحدهم بفرض غرامة أو عقوبة مع وقف التنفيذ عليه، لكن «قد يكون لسحب حق الإقامة تبعات مدى الحياة».

وفي حين اتفق يوهانس فيشنر، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، مع تروم على ضرورة التحقّق من حماية المواطنين-ات اليهود كفاية قانونياً، وعلى تشديد عقوبة التحريض على الكراهية، إلا أنه اتهم المحافظين باتباع سياسة رمزية. فيما قالت  لمياء قدور، النائبة الألمانية عن حزب الخضر من أصل سوري، إن التحالف المسيحي على حق في بعض النقاط، وأنه ينبغي الحديث عن معاداة سامية لدى ذوي الأصول المهاجرة، لكن «ليست كل مظاهرة، وليس كل إظهار للعلم الفلسطيني، تعبيراً تلقائياً عن معاداة السامية»، معتبرةً أنه من غير الضروري تشديد القانون الجنائي، بل تطبيقه المتّسق. اقترحت قدّورتقديم طلب مشترك بين جمع كتل الأحزاب الديمقراطية في البرلمان، معتبرةً أن من يحصر جهوده في مكافحة معاداة السامية على ذوي الأصول المهاجرة يرتكب خطأ فادحاً.

من جانبها، قدمت كتل الأحزاب الحاكمة الثلاثة (الاشتراكي الديمقراطي والليبرالي والخضر) تدابير لمكافحة معاداة السامية للنقاش في البوندستاغ تتألف من أكثر من 50 نقطة، تضمنت العمل على دفع الولايات لتطبيق متّسق لما تتضمنه المادة 53 من قانون الإقامة بما يتعلق بـ «طرد» الأجانب الذين يرتكبون جرائم معاداة سامية أو يدعمون حماس أو جماعة صامدون المحظورة في الأثناء، أو يدعون لكراهية اليهود، وترحيلهم الفعلي؛ وفي حال عدم إمكانية الترحيل، العمل على تطبيق تبعات حالة «الطرد» عليهم، كالحرمان من تثبيت الإقامة واستبعاد لمّ الشمل والإلزام بالإقامة في ولاية معنية ومنع العمل وتقليص المساعدات.

وطالبت الكتل أيضاً بالنظر في إمكانية حظر حركة مقاطعة إسرائيل BDS، استناداً إلى قرار البوندستاغ الصادر عام 2019 ضد الحركة. وكذلك دعت للعمل على عدم تمكين المرافق الثقافية التي تشكك بحق إسرائيل في الوجود، أو التي تعمل مع مرافق أو أشخاص يرفضون حق إسرائيل في الوجود، من الحصول على التمويل العام، وكذلك تعديل معايير الدعم لاستبعاد وصول التمويل الفيدرالي إلى مرافق ثقافية أو مشاريع ثقافية تنادي بمقاطعة إسرائيل أو تدعم حركة المقاطعة. لم تُطرح تدابير التحالف الحاكم للتصويت في البرلمان، بل اعتُبرت بحاجة للمراجعة.

حدود معاداة السامية المتعلقة بإسرائيل

طرحت مطالب مختلف الكُتل النيابية تساؤلاتٍ لدى البعض عما إذا كانت الحكومة الألمانية ستُحدّد لأحفاد اليهود الألمان ما هو الموقف الذي يجب أن يتبنوه من إسرائيل لكي يحصلوا على، أو يستعيدوا، حقهم في الحصول على الجنسية الألمانية، مع عدم استبعاد إمكانية رفضهم أداء قسم ينص على الإقرار بحق إسرائيل في الوجود.

في  رأي، دعا شتيفان ديتشن، كبير مراسلي إذاعة دويتشلاند فونك العامة، إلى فتح نقاش حول فهم معاداة السامية، منتقداً المنهج «الإشكالي» الذي تسلكه الحكومة الألمانية الحالية بعدم تمييزها بين اليهود في ألمانيا ومجتمعٍ إسرائيلي منقسم للغاية وحكومة إسرائيلية يمينية متطرفة شعبوية، في وقت تحاول حتى إدارة الرئيس جو بايدن النأي بنفسها عن بروباغندا الاحتلال التي تطلقها حكومة بنيامين نتنياهو، على حد وصفه.

واعتبر ديتشن أن الحكومة الحالية تكمل نهجاً بدأه البوندستاغ قبل سنوات عبر قراره ضد حركة «المقاطعة»، الهادف إلى «تضييق أو إلغاء مساحات النقاش العام استناداً على شكوك مُبهمة واتهامات معاداة سامية سياسية قابلة للمط»؛ ولذا «اعتبرت المحاكم، وعن حق، لا دستورية تقييد حرية التعبير والفن والبحث العلمي استناداً على قرار حظر حركة المقاطعة».

وأشار كبير المراسلين إلى أن الحكومة تريد توسيع هذا الأسلوب عبر أمر سلطات إنفاذ القانون والمؤسسات الثقافية والعلمية التي تتلقى تمويلاً عاماً باعتبار تعريف اللاسامية الذي أقره اتحاد «تذكّر الهولوكوست» منذ 20 عاماً كمقياسٍ وحيد، رغم انتقاد التعريف لأنه بات قديماً وبحاجة للمراجعة، من قِبل مؤلفيه حتى.

ديتشن أوضح أنه تبين لحكومات نتنياهو، وكذلك لقيادات ذات طابع تسلطي كترامب وأوربان، أن التعريف أداةٌ مفيدة لتقويض شرعية يساريين ليبراليين ومسلمين ووصفهم بالمعادين للسامية.

ودعا ديتشن لفتح نقاشٍ بخصوص حدود تجاوز انتقاد السياسة الإسرائيلية إلى معاداة سامية متعلقة بإسرائيل، خاصةً في مثل هذه الأوقات، لافتاً أنه في حين تركز مكافحة معاداة السامية في ألمانيا على اعتبار مصطلحات كـ«احتلال» و«أبارتهايد» معاديةً للسامية، يستخدمها باحثون إسرائيليون ويهود في كثير من المناسبات على أنها توصيف للوضع.

اللجوء كمصدر لمعاداة السامية

بعد أيامٍ فقط من اندلاع الحرب، اعتبر وزير الخارجية الأميركي الأسبق كيسنجر  في مقابلة مع رئيس مجلس إدارة دار أكسل شبرنغر، المعروفة بانحيازها لإسرائيل في تغطياتها، أن صور احتفال عربٍ في برلين بهجوم حماس «مؤلمة»، مرجعاً السبب إلى سياسة اللجوء الألمانية: «إنه لخطأ كبير السماح بدخول هذا العدد الكبير من الناس من ثقافات وأديان ومعتقدات مختلفة للبلاد، لأنها تشكل جماعات مصالح داخل البلدان».

وبدا تحرُّك حدود ما هو مقبول قوله، حتى لدى المحللين، واضحاً في برنامج حواري على قناة  العامة، شارك فيه غيدو شتاينبرغ، المحلل السياسي المعروف (برصانته عادةً) في شؤون الشرق الأوسط. حيث تحدث عن اعتراض ميركل باستمرار عام 2015 على قول إنهم «يستوردون» معاداة السامية والإسلاموية إلى البلاد، وأن قدوم اللاجئين يقوّي حزب البديل لألمانيا، رغم صحة ما ذُكر برأيه. واعتبر شتاينبرغ أنهم تجاهلوا، ولا يزالون، الجوانب السياسية الأمنية والثقافية السياسية لسياسة الهجرة. وشكك بأهمية مطالبة اللاجئين-ات بالإقرار بحق إسرائيل في الوجود؛ «قد يقدّمون الإقرار دون أن يغيّروا من حقيقة مواقفهم»، معتبراً أنه كان يتوجب على ألمانيا التعامل بتشكّك أكبر حيال من سُمح لهم بدخول البلاد، وكان ينبغي القول إن «الكثير منهم قادمون من البلدان الخطأ. قمنا بجلب معاداة السامية بمئات الآلاف إلى بلادنا». حينها تدخل أحمد منصور، الضيف الآخر في الحوار، وهو عربي إسرائيلي يُقدَّم إعلامياً على أنه خبير في علم النفس وفي الإسلام، من بين اختصاصات أخرى، وقال: «أتعلم؟ لو صغتُ هذه الجمل قبل 3 أشهر تماماً مثلما فعلت أنت، لوُصمتُ بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي على أني كاره للإسلام وعنصري»، في إشارة إلى اتهاماتٍ لطالما وُجِّهت لمنصور على تعليقاته المثيرة للجدل بخصوص الهجرة، كقوله مؤخراً: «لم يسبق وأن اندمج الإسلام في ثقافة أخرى. ولن يفعل ذلك في أوروبا».

ترحيل جماعي رداً على تنامي معاداة السامية؟

أثارت مجلة دير شبيغل عبر طرحها موضوعَي غلاف في عددين متتاليين في الأسابيع التالية لاندلاع الحرب، نشرت في الأول مقابلة موسعة مع المستشار أولاف شولتز، مُقتبسةً كلامه عن ضرورة «ترحيل عدد أكبر من الناس وبوتيرة أوسع»؛ وتناولت في الثاني وضع اليهود في ألمانيا، وعنونت العدد بـ«نحن خائفون»، ما يوحي بأن اليهود خائفون في ألمانيا بسبب اللاجئين.

وعلى نحو يُظهر دور وسائل الإعلام في نشر سردية ربط معاناة اليهود، الواقعية بالفعل في ألمانيا، بوجود اللاجئين، طرحت دير شبغيل  على شولتز في المقابلة المذكورة أسئلة من قبيل: «مِن بين هؤلاء الذين يكنّون الكراهية لإسرائيل الكثير من الناس من أصول عربية. هل تجاهلَ صناع القرار الألمان لوقت طويل الكراهية العميقة الراسخة لدى بعض المجموعات؟». وعند تأكيد شولتز على تتبعهم ذلك الموضوع عن قرب، سألت المجلة: «ليس عن قرب كفاية، هل ينبغي على ألمانيا إيلاء المزيد من الاهتمام لهؤلاء القادمين إلى البلاد، والتركيز على موضوع أحقية بقائهم؟»، وهنا تحدث شولتز عن رغبة حكومته في تقييد الهجرة «غير الشرعية» عبر حزمة من الإجراءات: «علينا أخيراً ترحيل هؤلاء الذين ليس لديهم الحق في البقاء في ألمانيا، وبشكل واسع».

نهاية شهر تشرين الأول الماضي،صادق  مجلس الوزراء على حزمة قوانين هجرة جديدة، تتضمن إجراءات لتسريع الترحيل تعطي الشرطة المزيد من السلطات للتفتيش خلال عملية تنفيذ الترحيل عندما يكون الشخص المعني متوارياً عن الأنظار، وترفع مدة احتجاز الشخص قبل ترحيله من 10 أيام إلى 28 يوماً.

يسهل على متتبع الإحصائيات إدراك أن هدف هذه المواقف السياسية إعلاميٌّ على الأرجح، إذ يعلم الساسة التأثير المحدود للإجراءات على الوضع العام، ومحدودية عدد الذين بوسعهم ترحيلهم قانونياً. وقد بلغ عدد من يتوجَّب عليهم مغادرة ألمانيا مبدئياً حتى نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي حوالي 255 ألفاً، يحمل 205 ألفاً منهم ما يُسمى إقامة «تسامح»، ما يعني أنه ليس بوسع السلطات ترحيلهم لأسباب مختلفة، ويُمنحون إقامة تُجدد كل 6 أشهر. ويحصل على إقامة  طالبو اللجوء المرفوضون الذين يثبتون معاناتهم من أمراض، أو الذين حصلوا على عمل ثابت، أو يثبتون التزامهم بتدريبٍ مهني، أو لا يحملون أيّ وثيقة سفر.

فيما بلغ عدد المُرَّحلين منذ مطلع العام وحتى نهاية أيلول (سبتمبر) 12 ألفاً.

تقييد عدد الأجانب في الحي الواحد؟ 

يبدو الساسة من مختلف الأحزاب قد اقتنصوا فرصة غلبة النقاش العاطفي العدائي حيال الأجانب لإخراج كل ما يكنونه من اقتراحات تقييدية للأجانب. إذ طالب فولفغانغ كوبيكي، نائب رئيس الحزب الليبرالي المشارك في الحكومة، بوضع سقف 25 بالمئة من الأجانب كمقيمين في الأحياء، وذلك لتجنب تشكل «مجتمعات موازية». فيما دعا كارستين لينمان، السكرتير العام للحزب المسيحي الديمقراطي المحافظ، والذي يتصدر استطلاعات الرأي، ألا تتجاوز نسبة المهاجرين في المدارس الألمانية 35 بالمئة.

وقد علّقت سوسن شبلي،  من أصول فلسطينية، على حسابها في منصّة X، أن نصف سكان بعض المدن الألمانية لديهم خلفية مهاجرة، فأين ينبغي وضع الناس؟ مضيفةً: «حدود ما يمكن قوله تتحرك كل يوم قليلاً نحو اليمين. أين هو شعار ‘نحن أكثر’»، في إشارة إلى شعار حفل موسيقي نُظم في كيمنتس في العام 2018 رداً على احتجاجات وملاحقة أجانب والاعتداء عليهم من قبل جماعات يمين متطرّف ومعادين للأجانب في المدينة.

الترويج لنموذج رواندا «الإنساني»

تضمنت حزمة إجراءات متعلقة بالهجرة، والتي نتجت عن اجتماع الحكومة الاتحادية والولايات الألمانية، توزيع بطاقات دفع لشراء الاحتياجات عوض دفع مبلغها لطالبي اللجوء، وذلك لمنع احتمال أن يُرسل متلقّو المساعدات من الأجانب المال لذويهم خارج البلد، وزيادة وتيرة الترحيلات عبر اتفاقات دولية، وكذلك النظر في إمكانية البت في طلبات اللجوء في بلد ثالث، في إشارة إلى ما بات يُعرف بـ«نموذج رواندا»، رغم تعثر الحكومة البريطانية في تطبيقه لأسباب قانونية.

ويُعد الباحث في شؤون الهجرة جيرالد كناوس أحد المنظرين لتطبيق هذا النموذج في ألمانيا، مقدماً إياه كبديل «إنساني» سيجنب اللاجئين الغرق في البحر المتوسط، علماً أن كناوس كان مهندس اتفاق الهجرة الذي وقعه الاتحاد الأوروبي مع تركيا عام 2016، القائم على قبول تركيا إعادة اللاجئين (السوريين في غالب الحالات) من اليونان مقابل حصولها على دعم مالي بمليارات اليوروهات.

ويروج كناوس للنموذج الرواندي، ويقول أنه يطبق بالفعل، إذ تتعاون الحكومة الرواندية مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين منذ العام 2019، وجلبت مذاك حوالي 2000 لاجئ-ة من ليبيا ودرست طلباتهم هناك، ويرى أن المحكمة العليا البريطانية لم ترفض المشروع قبل أيام من حيث المبدأ، بل تعلّقَ قرارُها بعدم الرضا عن ظروف طالبي اللجوء في رواندا.

ويقدم  النموذج المرجو في ألمانيا من الناحية العملية على النحو التالي: تتحدث ألمانيا فوراً مع إيطاليا ودول أوروبية أخرى حول عرض جماعي لدولة ثالثة آمنة محتملة، ثم يحدث التفاوض، وإنْ حدث اتفاق سيتم إنقاذ أي شخص يصل بعد موعد محدد على سفينة عبر ليبيا أو تونس إلى إيطاليا ويُسجل، ويُنظر إن كان هناك سبب فردي يمنع ضمان سلامة الشخص في دولة ثالثة آمنة، ولن يكون هناك سبب لدى الأغلبية. وهكذا، يُنقل اللاجئون إلى تلك الدولة الآمنة الثالثة التي عُقد اتفاق معها (رواندا مثلاً)، حيث تنفذ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إجراءات تقديم الطلب والبت به؛ ومن يحصل على حق الحماية قد يبقى في الدولة الثالثة الآمنة أو يُعاد توطينه، أما من يُرفض طلبه أو لا يريد تقديم طلب فتساعده المنظمة الدولية للهجرة على العودة إلى بلده. ويؤكد كناوس أن الهدف لا يتعلق بإنقاذ مئات آلاف اللاجئين والنظر في طلباتهم لاحقاً، بل يراهن على أن يرى المهاجرون واللاجئون أن لا فائدة من عبور البحر والمخاطرة في المقام الأول.

ولاحط  بروفيسور القانون الدولي هولغر هيسرماير أن ثمة فرق بين ما تحاول بريطانيا فعله وما ستنظر ألمانيا في إمكانية تطبيقه، إذ لا ينص اتفاق رواندا-بريطانيا على البت بطلبات اللجوء في الخارج، بل يُستبعد منحهم حق اللجوء في بريطانيا، أي يتم التخلص منهم هناك دون رجعة عملياً.

وقد أوقفت الحكومة التركية العمل باتفاق الهجرة مع أوروبا في 2020، وقُدّمت أزمة كورونا كسبب. وكان من أسباب عدم قدرة المستشار أولاف شولتز على رفض استقبال الرئيس رجب طيب أردوغان قبل أيام، رغم تصريحاته الموالية لحماس والمناوئة لإسرائيل، محاولة شولتز إقناعه بإعادة إحياء الاتفاق الأوروبي التركي، الذي اعتبره شولتز «جيداً»، وكذلك حثه على قبول استقبال مواطنيه الأتراك الذين رُفضت طلبات لجوئهم.

معاقبة منظمات إنقاذ اللاجئين في البحر؟

أثارت مادة أوردتها وزارة الداخلية الألمانية في تعديل لقانون الإقامة جدلاً، إذ نصّت على تشديد معاقبة المهربين، ولكن أيضاً من يساعد الأجانب على دخول الاتحاد الأوروبي دون تأشيرة بشكل متكرر، حتى دون الحصول على مقابل مادي، ما لا يمكن فهمه إلا عقاباً للمنظمات التي تنفّذ مهمات إنقاذ في البحر المتوسط. وتساءلالبعض  إن كان حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف قد بات بالفعل في السلطة.

وقد تراجعت  وزارة الداخلية، دون أن تقر بذلك، عن الفقرة المذكورة التي كانت تجرّم عملياً نشاط منظمات إنقاذ تحصل على تمويل حكومي.

* * * * *

في ظل انعدام فرص النقاش حول الحدود بين معاداة السامية ونقد إسرائيل في ألمانيا على المدى المنظور، ستظل مشاركة أي شخص من أصول مهاجرة في فعالية موالية للفلسطينيين، أو تعبيره عن رأي «غير معياري» ألمانياً في الصراع مخاطرةً بوضعه القانوني وبوجوده في ألمانيا، وسط نقاش تعديلات تشريعية ذات أثر كبير على حياة المهاجرين واللاجئين. لا يحصل ذلك لأنهم معادون للسامية، بل لأن الجو الحالي يجعل من المستحيل ضمان ألا يُفسر أي كلام نقدي لإسرائيل بطريقة رغائبية على أنه معادٍ للسامية. في الثامن عشر من تشرين الأول (نوفمبر)، كتب صانع أفلام ألماني-فلسطيني منشوراً عن مقتل صحفيين فلسطينيين بغارات جوية إسرائيلية مرفقاً تغريدته بهاشتاغ: «أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة»، ليُعلّق عليه حساب مؤيد لإسرائيل، وهمي على الأرجح ولديه 10 متابعين: «تعرف أنه من المُعاقب عليه قانونياً افتراض أن إسرائيل ترتكب مجزرة جماعية. لن يبقَ هذا دون تبعات»، واضعاً وسم الموساد وجيش الدفاع الإسرائيلي وشرطة ميونيخ للتنبيه إلى التغريدة. وفي وقت لاحق،كننت شرطة ميونيخ رداً مفاده: «نقوم بالتحقق من ذلك»