شكّلت مناسبة عيد النوروز “اليوم الجديد” أو بداية السنة الإيرانية الجديدة (الهجرية الشمسية 1404)، اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام الإيراني على تلمّس التحدّيات والمخاطر التي تحيط به وتهدّده من كلّ ناحية.
اضطلع المجلس الأعلى للأمن القومي بدور في توفير الغطاء للحكومة الإيرانية برئاسة مسعود بزشكيان للتملّص من تنفيذ قانون “الحجاب والعفاف”، الذي أقرّه مجلس الشورى بضغط من الجناح المتشدّد والراديكالي من المحافظين، وذلك لتفادي إمكان حصول انفجار اجتماعي في هذه اللحظة الدقيقة والحسّاسة التي تمرّ بها إيران ونظامها، لا سيما في ظلّ التحدّيات والتهديدات الخارجية التي يتعرّضان لها.
ولعب هذا المجلس دوراً أساسيّاً في توفير الغطاء للحكومة عبر وزارة الداخلية لإعطاء الإذن لأبناء القومية الكردية في إيران بإقامة احتفالات لمناسبة النوروز أو عيد رأس السنة الجديدة، خاصة أنّ الأكراد في كلّ المنطقة يعتبرون أنّ هذا العيد هو من خصوصيّات هويّتهم القومية، ولذلك يحظى بقدسيّة معيّنة.
أخذت التسهيلاتُ التي حصل عليها الأكراد لإقامة هذا العيد في الاعتبار أنّ أزمة الحجاب أو الاحتجاجات والمطالبات بإلغاء إلزاميّة الحجاب، والتظاهرات التي شهدتها إيران في خريف عام 2021، كانت نتيجة مقتل الفتاة “الكرديّة” مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في طهران، وأنّ المرحلة تستدعي استيعاب الأكراد الذين تعرّضوا لقمع واسع وقاسٍ نتيجة انتفاضة “المرأة، الحياة، الحرّية”، خاصة مدينة “سقز” التي تأتي منها “مهسا” في محافظة كردستان إيران.
ما شهدته إيران مع بداية سنتها الجديدة يستكمل ما سبق أن حقّقه الإيرانيون في السنتين الماضيتين في ما يتعلّق بحقوقهم الشخصية وحرّياتهم الاجتماعية
أسلمة العادات والتّقاليد
بعيداً عن الخلفيّات الرسمية التي دفعت منظومة السلطة إلى الموافقة على مثل هذه الاحتفالات، والتي تتعارض مع كلّ الجهود التي بذلها النظام على مدى أربعة عقود ونيّف لأسلمة العادات والتقاليد الإيرانية لشعوب وقوميّات إيران، ودمجها في مفاهيم إسلامية أو استبدالها برسوم دينية، لم يكن الإيرانيون عموماً، والأكراد خصوصاً، ليفوّتوا هذه الفرصة عبر تحويلها إلى خطوة على طريق انتزاع مطالبهم، سواء بشكل مباشر وعبر الشارع كما حصل في مسألة الحجاب، أو بالاستفادة من حاجة النظام إلى الابتعاد عن دوائر الخطر والتفجير الداخلي.
النوروز
النوروز، أو اليوم الجديد، الذي يتوافق مع بداية فصل الربيع، في أحد تعبيراته المشتركة مع الكثير من الثقافات القديمة، هو يوم انبعاث الأرض وتزيّنها بالألوان والفرح والوعد بالخير والجمال. وعلى الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها الإيرانيون في ظلّ النظام الإسلامي للإبقاء على هذه الاحتفالية والحفاظ على رونقها وحيويّتها، تحوّلت بفعل السلطة إلى “فعل خاصّ” قائم على حرص الجماعة الإيرانية على الابقاء عليها حاضرة في روزنامتهم السنويّة، باعتبارها مكوّناً ثقافيّاً إلى جانب المكوّنات الأخرى، القديمة والتراثية وحتى الجديدة.
لم تتردّد أيّ قرية أو ناحية أو مدينة يشكّل فيها الأكراد مكوّناً من مكوّناتها السكّانية، أو تلك ذات الطابع الكردي الخالص، في الذهاب لاستقبال الربيع واليوم الجديد هذه السنة، واستغلال الفرصة إلى أقصى حدودها التي تشارف التحدّي ولا تقع فيه، وإن وقعت فمن غير رغبة أو قصد.
بالتزامن مع ارتداء الطبيعة لحلّتها الربيعية والألوان المختلفة، ارتفعت مواقد الحطب في ساحات الاحتفال في مختلف المدن والقرى، استعداداً لإشعال النيران فيها، وإيذاناً بانتهاء فصل البرد، وربّما استعادة رسوم دينية قديمة كانت في يوم من الأيّام هويّة شعوب الهضبة الإيرانية الدينية.
شكّلت مناسبة عيد النوروز “اليوم الجديد” أو بداية السنة الإيرانية الجديدة، اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام الإيراني على تلمّس التحدّيات
طعم مختلف
تزيّنت النساء بأبهى ما في خزائنهنّ من ثياب ملوّنة تشكّل تعبيراً قويّاً عن الهويّة الثقافية للشعوب الكردية، وتمايلن على وقع الدفوف التي أزيل عنها غبار السنوات المتراكم، لكنّ جلودها لم ترتخِ بفعل الانتظار والزمن، وكانت تنتظر موعدها للعودة إلى احتفاليّتها بالجمال، فكان أن اختلطت ألوان الطبيعة بألوان الثياب المزركشة، حتّى بات من الصعب أن تميّز بين الأرض – الأمّ والمرأة الكرديّة – الأرض. واشتبكت أيدي الفتيات، اللاتي فضل بعضهنّ ارتداء الزيّ الكردي المخصّص للرجال، بأيدي الشباب، والتقت الأكتاف بعضها إلى بعض، لترسم بالصورة والصوت والحركات حيويّة هذا الشعب وإصراره على الحياة وتمسّكه بها، مسقطةً كلّ المحاذير “الشرعية” التي تمنع الاختلاط أو رقص المرأة في العلن أمام الرجل.
ما قالته النيران المتأجّجة من منصّات الحطب وسط ساحات الاحتفالات في كلّ إيران، وطقوس الرقص والاحتفال التي رافقتها على مدى أيام، كان واضحاً في رسالته لمنظومة السلطة التي جلست تراقب عن قرب وبعد، من دون أن تمتلك القدرة أو الجرأة على التدخّل، وقد أكّدت الرسالة أنّ كلّ محاولات طمس الهويّات المكوّنة للشعوب والجماعات قد ترتدّ فعلاً عكسيّاً يعيد تأكيد هذه الهويّات على حساب الهويّة التي أرادت وسعت السلطة إلى فرضها وتعميمها، من دون الأخذ بخصوصيّات الجماعات المتعدّدة.
احتفالية النوروز هذه السنة في إيران كان لها طعم وطابع مختلفان عمّا سبقها منذ سنوات، وإن كانت لم تقترب من تحدّي الجانب العقائدي أو الأيديولوجي للسلطة، فقد قالت بشكل واضح إنّ الوصول إلى الله لا يمكن أن يكون عبر السلطة والفرض والإجبار، وإنّ لكلّ فرد أو جماعة طريقها أو مسلكها أو سلوكها الذي تعتقد أنّه يوصلها إلى الهدف الأسمى.
ما شهدته إيران مع بداية سنتها الجديدة يستكمل ما سبق أن حقّقه الإيرانيون في السنتين الماضيتين في ما يتعلّق بحقوقهم الشخصية وحرّياتهم الاجتماعية والثقافية، وبإعادة تكريس معادلة قدرة الشعوب على فرض إرادتها مهما كانت طبيعة النظام أو السلطة التي تتولّى الحكم.