محمد صالح، وزير الثقافة في الحكومة التي أدّت اليمين أمام الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع مساء أمس الأوّل، استدرّ (إذا لم يكن قد استدرج) تصفيقاً إضافياً، واستحساناً جلياً لاح حتى على وجوه الصفوف الأولى من كبار الحضور؛ حين افتتح كلمته ببيتَيْن من شعره (هو «العبد الفقير» كما قال):
لقد صُمْنا عن الأفراح دهراً/ وأفطرنا على طبق الكرامة
فسجّلْ يا زمان النصر سجّلْ/ دمشقُ لنا إلى يوم القيامة
لكنه استدرك فأوضح التالي: «حين نقول دمشق لنا، فنحن نعني أنّ سوريا لنا، وهذه استعاضة بالبعض عن الكلّ. وحين نقول لنا فنحن نعني أنها للجميع، عرقاً وديناً ولوناً ومبتدأ ومنتهى»؛ فاستدرّ موجة ثانية من تصفيق الاستحسان.
ذاك كان استدراك الحدّ الأدنى، المطلوب والعاجل أياً كانت المقاصد الأمّ من البيت الثاني، وإشكالية «دمشق لنا» التي لم يكن لها أن تخفى لولا مسارعة الإعلامي/ الشاعر/ الوزير إلى توصيف نطاقاتها الدلالية الأوسع؛ بحيث تستبعد معنى استئثار فريق سياسي وعقائدي وعسكري بالعاصمة/ سوريا، إلى أن تقوم الساعة. ولو أنّ صالح لم يسارع إلى «ضبط» المعاني بما يُخرجها عن حيازة الفريق الواحد، لتشمل «الجميع»؛ فإنّ استقبال ذكاءً أم خطلاً، كان سيُبقي بوّابات التأويل مفتوحة على مصاريعها، ولا تثريب على السامع والمتلقي في الذهاب حيث يشاء استقراؤه.
ليس واضحاً، في يقين هذه السطور على الأقلّ، أنّ صالح كان مطلوباً منه أن يمثّل «وجه السحّارة»، كما نقول في تعبير سوري ومشرقي عريق، المتكفلّ بتجميل طقس غير مألوف، وفريد استثنائي ربما، في أداء حكومة جديدة القسم؛ وذاك كان حفلاً لم تغبْ عنه عناصر إخراج مسرحي، استوجب أيضاً انكشاف ردود فعل الحضور المتباينة، بين إقبال أو فضول أو رتابة. لكنّ صالح شاء انتهاج خيار شاعري وغنائي، وفيّ والحقّ يُقال لتكوينه الثقافي والإنساني، ولعله بذلك منح السوريات والسوريين فرصة المقارنة مع عثرات كثيرة طبعت خطابات عدد غير قليل من زملائه الوزراء، والسيدة الوزيرة الوحيدة بالطبع.
من جانب آخر، وحين انتقل الشاعر إلى مسؤولية الوزير هذه المرّة، فقد أعلن التالي: «إذا أردتُ أن أتحدث عن الثقافة باختصار شديد، فأقول هي أن نفتت ونبتعد عن كلّ المنظومة الثقافية التي كان يتبناها الوضيع البائد الهارب الذي كان يحتلّ هذا القصر»؛ وهذه استدرت موجة تصفيق ثالثة، يسهل إدراك بواعثها. كان في وسع صالح، بل توجّب عليه، أن يميّز على الفور بين ثقافة السلطة ونظام «الحركة التصحيحية» والسلطات والأنظمة عموماً، وبين ثقافة سوريا الشعب والبلد ليس في مستويات إنتاج المادّة الثقافية وحدها، بل بمصطلح الثقافة البشري والاجتماعي الأعمّ والأشمل كما تقرّ به العلوم الإنسانية. هذه لا تُفتّت مع تغيير السلطات أو الوزراء أو التدابير البيروقراطية إجمالاً بادئ ذي بدء، وفي بلد مثل سوريا تالياً ومن حيث الجوهر أيضاً.
ففي سوريا خلال عهود الأسدَين الأب والوريث، عمل موظفون في وزارة الثقافة أمثال المفكر أنطون مقدسي (1914ـ2005)، أحد شركاء أكرم الحوراني في تأسيس «الحزب الاشتراكي العربي»؛ ومن موقعه في مديرية التأليف والنشر أتاح ظهور عشرات الأعمال الرفيعة بين مؤلفات وطنية وترجمات عالمية. المقدسي هو، أيضاً، صاحب الرسالة الشهيرة إلى الأسد الابن، التي تقول بعض سطورها: «الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل. إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: (الأول) أن يعمل ليلاً ونهاراً كي يضمن قوت أولاده، (والثاني) أن يتبنى السلوك الذي يطلب منه (مسيرات، هتافات…). إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار هو أنه يتعايش مع هذا الوضع المتردي تعايش المريض مع مرض مزمن»، مطالباً في الختام أن يتحوّل الشعب «من وضع الرعية إلى وضع المواطنة».
وإذا كانت «ثقافة» السلطة قد فرضت أمثال علي عقلة عرسان وصابر فلحوط وكوليت خوري وحسين جمعة، فإنّ الثقافة السورية واصلت تقديم أسماء لامعة من طراز زكريا تامر وعلي الجندي وممدوح عدوان وهاني الراهب وعلي كنعان وعبد الله عبد. ولعلّ من خير الثقافة السورية أن يتذكر الوزير الجديد بعض ألمع سابقيه من شاغلي هذه الحقيبة الوزارية في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، ابتداءً من فتحي رضوان وثروت عكاشة وصلاح البيطار في زمن الوحدة، وعزت النص وأحمد السمان وشبلي العيسمي وعبد السلام العجيلي، أسوة بنقائض وزراء آل الأسد، أمثال مها قنوت ومحمود السيد ولبانة مشوّح ومحمد الأحمد.
جدير بالتذكير، إلى هذا، أنّ وزارة الثقافة في سوريا تشرف على أكثر من 20 مديرية (بين أبرزها: المراكز الثقافية، الفنون الجميلة، المسارح والموسيقى، حماية حقوق المؤلف، ثقافة الطفل…)، وتتبع لها الجهات التالية: الهيئة العامة للكتاب، المؤسسة العامة للسينما، المديرية العامة للآثار والمتاحف، المعهد العالي للفنون المسرحية، المعهد العالي للموسيقا، دار أوبرا دمشق. مهامّ صالح في خدمة الثقافة السورية تقتضي استطراداً ما هو أبعد، بكثير عميق بنيوي وجذري في الواقع، من مجرّد رغبة غنائية في تفتيت «ثقافة الهارب»؛ خاصة أنّ الشعب السوري عبر 61 سنة من انحياز مثقفيه إلى الحقّ والخير والجمال والتغيير الجوهري، تكفّل بتقزيم مثقفي الاستبداد إلى أبواق ناعقة في بوادي الارتهان والتبعية والارتزاق.