في وقت واحد تقريباً، ثبُت بالوجه الشرعي، أن بيروت ودمشق، أعدتا اكتشاف مركز صناعة القرار، وتوزيع الأدوار والمهمات والمسؤوليات، التي بدا أنها ضاعت، عن البعض، بعدما تغيرت رموز الحكم في العاصمتين، جراء تحلل السلطتين المركزيتين السابقة، والدخول في حقبة انتقالية متشابهة، ما زالت تكتسب في لبنان شرعية دستورية متقدمة نسبياً على تلك السائدة في سوريا، لكنهما تتمتعان معاً بغطاء عربي ودولي واسع، يكاد يكون مشتركاً.
ما جرى في بيروت ودمشق، لم يكن انقلاباً سياسياً، رئاسياً بالتحديد، أو تعديلاً جذرياً في شكل الحكومة ودورها ووظيفتها، بل كان مجرد توضيح أخير، الى ان مركز صنع القرار اللبناني هو عند الرئيس جوزف عون وغالبيته الوزارية الحاسمة، المعبرة عن ما يشبه الاجماع السياسي، المؤهل للصمود ست سنوات مقبلة.. بقدر ما أن مركز صنع القرار السوري عند الرئيس احمد الشرع وشرعيته المستمدة من هيئته العسكرية الحاكمة، وهويته الإسلامية النافذة، والمؤثرة في مسار العملية الانتقالية المقررة بخمس او ست سنوات، وربما أكثر..
لعل الصدفة وحدها هي التي انتجت هذا التزامن الذي لا يسمح بإجراء أي مقارنة او البحث عن قواسم مشتركة بين الرجلين او بين التجربتين اللتين تفصل بينهما تناقضات شتى، يرجح ان تؤدي في المرحلة المقبلة الى صدامات حادة بين البلدين والشعبين، تفوق بخطورتها ما كان شائعاً في الماضي بين لبنان والحكم الاسدي البائد.. وتجعل الحدود المشتركة عصية حتى على فكرة بناء الجدار العازل التي نصح بها أحد الأصدقاء العرب، عندما بدأت التوترات الحدودية بين أفراد “الشعب الواحد”، وكشفت عن أن السلطة الانتقالية الجديدة في دمشق، لم ترث من “ثقافة الاسديين” سوى الكراهية أو النفور من اللبنانيين جميعاً.
في بيروت، كانت معركة تأليف حكومة نواف سلام، ثم التشكيلات العسكرية، ثم تعيين الحاكم الجديد لمصرف لبنان، مناسبة للتأكيد على ان التفويض العربي والدولي الذي ناله الرئيس عون، والغالبية النيابية الساحقة التي حظي بها، ثم الغالبية الوزارية الحاسمة التي اكتسبها، لا يحتمل التشكيك ولا الجدال. وهو لا يقتصر على التحدي الأكبر المتمثل بتنفيذ ملحقات القرار 1701، أو على ضبط الحدود مع سوريا وترسيمها، بل هو يشمل أيضا الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية المطلوبة من قبل المجتمعين العربي والدولي. والطريق الى هذه الإصلاحات سيفتح قريباً في المفاوضات المرتقبة مع صندوق النقد الدولي، ثم مع تعاقب الانتخابات البلدية والنيابية وما يسبقهما من تعديلات على القوانين والموازين واللوائح المصنوعة بالتفاهم او التشاور مع قصر بعبدا.
ولن يجدي نفعاً تلويح رئيس الحكومة، وأقليته الوزارية، بكتاب “دستور الطائف”، الذي يراد تنفيذه، استناداً الى أقلية سياسية وشعبية ظاهرة، لا سيما وأن الموارنة يرفضونه، والشيعة يكرهونه، ولا يجد السنة قوة مؤثرة للدفاع عنه، أو حتى للمضي قدماً في تنفيذ ما لم ينفذ من بنوده، التي استولت القوى السياسية التقليدية المعرقلة لهذه المهمة، على عناوين مثل قانون الانتخاب ومجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية وإلغاء الطائفية السياسية..وحولتها الى أسلحة ضد سلام، وضد رئيس الجمهورية نفسه.
في دمشق أيضا، حسم الرئيس أحمد الشرع، الذي يتمتع بتفويض عربي ودولي واسع، الجدل حول مركز صنع القرار السوري، فشكّل مجلساً وزارياً جديداً يزيّن “الحكومة المصغرة” التي تضم الوزراء السياديين المنتمين الى “هيئة تحرير الشام” وحلفائها الموثوقين، بتمثيل محدود، وغير مؤثر، للاقليات الأربع التي غيبت عن الفترة السابقة من المرحلة الانتقالية، أي الاكراد والعلويين والمسيحيين والدروز، الذين كانت ردود فعلهم على تلك العملية التجميلية، مغايرة حتى لردود الفعل العواصم العربية والدولية، التي كانت ولا تزال تناشد الشرع وفريقه توسيع التمثيل السياسي- المجتمعي للسلطة الانتقالية، بما يحد من طابعها الاحتكاري، وبما يضمن تقديم الحجج الضرورية لرفع العقوبات عن الرئيس والهيئة وشركائهما الاسلاميين.
القاسم المشترك بين الحالتين اللبنانية والسورية، هو أن المجتمع الدولي والعربي، يعبر عن قدر كاف من الالتزام بالتفويض الممنوح للرئيسين عون والشرع، ومن التسامح مع التجارب التي يخوضانها، الأول بشرعية دستورية لا جدال فيها، والثاني بشرعية سياسية لا بديل منها..لكنهما يحققان في البلدين استقراراً نسبياً، مأمولاً، من قبل الشعبين، ومن قبل شعوب العالم كافة.
بيروت في 31 / 3 / 2025