مكسيم غوركي (1868 – 1936) (وكالة تاس)

تماماً كما أن أواسط سنوات الثلاثين من القرن العشرين كانت السنوات التي اهتم فيها كثر من الروس برحيل كاتبهم الكبير غوركي  ربما بأكثر من اهتمامهم بمحاكمات موسكو؛ كذلك لا شك أن السنوات 1938 – 1940 كانت سنوات اهتم فيها الروس أنفسهم بالأفلام الثلاثة التي حققها “مخرج الشعب الروسي” المفضل حينذاك، مارك دونسكوي (1901 – 1981)، عن ثلاثية مكسيم غوركي نفسه حول طفولته وخوضه الحياة اقتباساً عن رواياته الثلاث التي تتناول سيرته الذاتية وكانت قد صدرت أولاها قبل الثورة البولشفية على أية حال. والحال أن تلك الأفلام حتى وإن حققت في البداية نجاحات كبيرة محلية وعالمية، فإنها انطوت طويلاً مع النسيان حتى أفاقت من جديد ولا سيما حين جاء في مقال نشرته صحيفة “غارديان” عام 2011 أنها تعتبر تلك الثلاثية ثامن أفضل ثلاثية سينمائية في تاريخ هذا الفن. ومن هنا عاد غوركي إلى الواجهة… السينمائية من جديد، كما عاد معه مخرج الثلاثية دونسكوي مكللاً بغار متجدد.

بعيداً من السياسة؟

وللمناسبة يومها لا شك أن قدراً كبيراً من الاعتبار قد أعيد، من طريق السينما هذه المرة، إلى غوركي الذي كان التركيز يجري عليه، غالباً قبل ذلك، بفضل ثلاثة أمور صنعت معاً شهرته، في نظر قرائه، ليست لها علاقة مباشرة بأدبه: مسرحيته “الحضيض” التي دائماً ما جرى التركيز على أبعادها الأيديولوجية البؤسوية؛ وصداقته مع لينين، زعيم الثورة الروسية التي أوصلت البلشفيين إلى الحكم عام 1917؛ وأخيراً الغموض الذي أحاط بموته عام 1936. وهذا ما دفع كثراً إلى القول دائماً إن البعد السياسي في حياة غوركي وعمله كان عبئاً عليه، في معنى أن غوركي لولا انخراطه في النضال وفي الثورة، كتابة وفي شكل عملي، لكانت مكانته الأدبية في القرن العشرين أكبر مما هي عليه، يشهد على هذا بين أعمال كبيرة أخرى ثلاثية سيرته الذاتية، التي تبدو اليوم منسية بعض الشيء، مع أنها كانت خلال النصف الأول من القرن العشرين، ذات شعبية هائلة، داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه، ولا سيما بعدما حولت إلى ثلاثية سينمائية.

أفلام متفردة

صحيح أن من بين أجزاء هذه الثلاثية، وعناوينها الأدبية كما السينمائية هي: “حياتي كطفل” و”فيما أكسب رزقي” و”جامعاتي”، يقف هذا الجزء الأخير نسيج وحده، كقطعة أدبية استثنائية، فإن الجزء الأول في انتقاله إلى السينما وقف متفرداً إذ من الواضح أن دونسكوي قد اشتغل عليه بشكل استثنائي ميزه عن الجزأين التاليين… وقبل أن نتحدث عن “حياتي كطفل” سينمائياً قد لا يكون مفر من أن نشير إلى أن المكانة الكبيرة التي كانت لغوركي حين صدر الجزء الثالث بعنوان “جامعاتي” عام 1923 وكان بلغ ذروة في شهرته الأدبية، وارتبط اسمه باسم صديقه لينين، مكنته من أن يعبّر عن تحفظات عدة حول الكيفية التي تدار بها شؤون الثورة وشجون الدولة… ويبدو هذا معكوساً في ثنايا هذا الكتاب الجميل.

تفتح مبكر

إذاً يطالعنا في الفيلم الأشهر بين أفلام الثلاثية “حياتي كطفل” صورة لبدايات ذلك الكاتب الكبير. ففي هذا الجزء نتعرف، إلى طفولة ذلك الفتى الذي سيصبح لاحقاً مكسيم غوركي وذلك إثر موت أبيه تاركاً إياه وأمه نهباً للفاقة والبؤس ما يجعلهما الآن ينتقلان إلى مدينة نيجني نوفغورود حيث سيقيمان لدى جده لأمه ويبدأ هو ليس فقط بخوض الحياة العملية صبياً عاملاً بين العمال البائسين متفتحاً على الحياة وبؤسها منذ سنواته الباكرة، بل حتى طفلاً واعياً على أولى النضالات العمالية ليس من موقع المثقف الذي سيكونه، بل من موقع من يعيش تلك الأوضاع كأمر مفروغ منه. فالمرء لا يختار أن يكون بائساً بإرادته ولمجرد أن البؤس سيولد لديه ذلك الوعي الذي سيقوده إلى الثورة ضد الظلم. صحيح أن تلك الثورة سوف تسم لاحقاً طفلنا هذا، لكنها لن تكون في البداية ثورة بناء ولا حتى هدم، بل ثورة تعرف أن ثمة في المجتمع ظلماً، لكن الوقت يكون أبكر من أن يفهم معه ذلك الطفل كنه ذلك الظلم ومسبباته. هذا الفهم سيكون لاحقاً وتحديداً، في الجزء الثاني حين ينخرط إليوشا في الحياة العملية وقد بارح الطفولة وبات في سن المراهقة. فهو هنا ينتقل إلى العمل في مخازن أقرباء له سيقول لنا كم أنه وأمه كانا يأملان في أن يوفر لهما العمل هناك مقومات عيش كريم. لكن الحقيقة تكون غير الآمال المبنية. فالمسألة ليست مسألة أقارب أو غير أقارب، بل مسألة منظومة اجتماعية متكاملة. والحقيقة أن إليوشا سوف يبدأ حينذاك اكتساب الوعي التدريجي بذلك الواقع، في هذا الجزء بالذات والذي إذ يسحب القارئ والمتفرج بالتالي من تلك الأحلام الطفولية الجميلة التي كانت قد صنعت بهاء الفيلم الأول، تمهد هنا للجزء التالي والأخير الذي سيركز على البعد الأقوى في مسار تلك الطفولة لكنه سيفقد ذلك المسار العذوبة التي رأيناها مهيمنة على الجزء الأول، حتى بصرياً، ثم رحنا نتابع ذوبانها في الجزء الثاني، لنصل مع الجزء الأخير إلى فيلم يمكننا أن نضعه كله تحت شعار الوعي الذي كان لا بد أن يكتسبه ابن السابعة عشر… هذه المرة.

 

على ضفاف الفولغا

ففي الجزء الثالث والأخير من “الثلاثية السينمائية”، وتماماً كما في الكتاب، يحدثنا غوركي عن حياته بدءاً من عامه السابع عشر حين وصل إلى مدينة قازان الجنوبية حيث سيتابع دراسته الجامعية. وهناك، لما كان الفتى خالي الوفاض و”معرّضاً للموت جوعاً في أية لحظة”، بحسب تعبيره، كان عليه أن يعمل خلال جزء من يومه على ضفاف نهر الفولغا، وسط الحفاة البائسين المستضعفين الذين وجد لزاماً عليه أن يشاطرهم بؤسهم وأحقادهم وإحساسهم بالعداء تجاه العالم كله، أو بحسب ما يكتب: “لقد كنت أحب حقدهم تجاه الحياة. كنت أحب موقفهم العدائي الصاخب والوقح تجاه أنفسهم. فالحقيقة أن كل ما كنت أنا عشته قبل أن ألتقي بهم، كان يجتذبني الآن نحو أولئك الأشخاص ويعطيني الرغبة في الغوص في عالمهم الرهيب”.

غير أن الأمر لم يطل بغوركي هناك… إذ إننا سرعان ما نراه وقد تحول إلى فتى عامل في فرن، في الوقت نفسه الذي راح يختلط بالأوساط الطالبية، ويصبح جزءاً من حركتهم المتمردة والراديكالية، مشاطراً إياهم اجتماعات سرية يقوم نشاطهم الأساس خلالها على قراءة كتب ممنوعة: لقد كانت تلك الأوساط أوساطاً تهيئ للثورة، وسط صخب فكري يتجاور فيه الشبان الغاضبون مع فاقدي الإيمان المتعصبين، مع المتأثرين بأفكار تولستوي الإنسانية اليوتوبية الحالمة… ويضج فيه الخطباء الصارخون بالأفكار الكبيرة. كان مناخاً في منتهى الغرابة والحيوية ذاك الذي يصفه غوركي في تلك الصفحات، من دون أن يتوقف بين صفحة وأخرى عند موقعه الخاص، هو الذي كان يشعر في ذلك الحين أن فؤاده موزع “بين أحلام تزرع الطيبة والعدالة والإيمان” و”يأس يولد، بخاصة، من رحم الفاقة”… سيكون هو نفسه اليأس الذي يدفع به ذات مرة إلى محاولة الانتحار. غير أن هذا كله لم يمنع فتانا من أن يقدم على إيجاد حلول لوضعيته الخاصة، تتمثل كلها في القراءة… إذ ها نحن نراه يقبل على قراءة الكتب وعلى قراءة كل ما يقع بين يديه، حتى من دون أن يدرك أول الأمر أن تلك القراءات ستكون جامعته الحقيقية. ففي أول الأمر كانت قراءاته الكثيفة مجرد استجابة إلى صديق راح يحدثه عن كبار الكتاب الروس ويوفر له كتبهم: من بيساريف إلى تشيرنيشيفسكي، ومن بوشكين إلى نيكراسوف… ولكن أيضاً في امتداد نحو الخارج كان من علاماته كتب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، ونصوص ماكيافيللي وسبنسر وداروين… كل هؤلاء كانت قراءتهم، بالنسبة إلى غوركي، سبيله الأول إلى الابتعاد عن فكرة الانتحار، إذ أصبح سؤاله الأساس هنا: كيف كان يمكنني أن أحرم نفسي من حياة تشمل كل هذه النصوص والاطلاع على كل هذه الأفكار؟