مرّ سبعون يوماً على الحرب الإسرائيلية على غزة من دون أنّ تحقّق إسرائيل أياً من أهدافها التي أعلنتها أو تُحقّق الانتصار الذي تأمل في تحقيقه ومن دون أن تستسلم حركة “حماس” أيضاً، وما زالت رحى الحرب دائرة وسط مطالبات أميركية بإنهائها عبر قرار إسرائيلي أو من خلال استسلام “حماس”، كما طلب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ذلك قبل أيام.
كل المؤشرات تذهب إلى قرب انتهاء الحرب، ولكن إسرائيل تبحث عن انتصار ولو كان زائفًا. الضغوط الأميركية باتت أكبر على الحليف الاستراتيجي لوقف إطلاق النّار، وما زالت إسرائيل ترفض قبوله أو حتى إنهاء الحرب من دون أن تُحقّق أهدافها المعلنه والمتضاربة في الوقت نفسه.
تضع إسرائيل أهدافًا معلنة من وراء هذه الحرب مثل القضاء على “حماس” وتحرير الأسرى؛ ولعلهما هدفان متناقضان؛ فإذا قضت إسرائيل فعلياً على “حماس” لن يكون هناك أسرى إسرائيليون، والحفاظ عليهم يعني التفاوض مع الحركة وليس القضاء عليها، وإذا تمّ التفاوض مع الحركة بشأن خروجهم، فهذا يعني انتصاراً لـ”حماس”، كما أنّه لا يعني تحقيق هدف القضاء عليها!
في كل الأحوال، لم تُحقّق إسرائيل أياً من الأهداف الثلاثة المعلنة والمرتبطة كلها إما بتحرير أسراها أو الانتصار على “حماس” أو القضاء على حكمها في غزة، ورغم ذلك طالبت تل أبيب “حماس” بالاستسلام، بل ورفع المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان لافتة كتب عليها رقم هاتف يحيى السنوار، مسؤول “حماس” في غزة، مطالباً المجتمعين في الأمم المتحدة بالتواصل معه لإنهاء الحرب، مع أنّ إسرائيل توعّدت بقتله قبل سبعين يوماً.
هذه محاولة لتسطيح الصراع الدائر حالياً والحرب التي لم تُحقّق لإسرائيل شيئاً على الأقل حتى كتابة هذه السطور، فجزء من أزمة إسرائيل في هذه الحرب أنّها تُحارب أشباحاً يسكنون في قلب الأرض، لا يحضرون في مكاتب ولهم أرقام هواتف يُعلنها جلعاد في المقر الأممي قبل أيام، وإنما يوجدون في شبكة أنفاق فشلت إسرائيل في الوصول إليها أو في تفجيرها أو في غمرها بالمياه كما صرّحت أكثر من مرّة في وسائل الإعلام المختلفة.
بمقاييس الخسارة والربح وفق معطيات المعركة الحالية التي يمكن أن تتبدّل في أي وقت، “حماس” هي المنتصرة، ورغم ذلك يُطالبها المهزوم والمأزوم بالاستسلام لإنهاء المعركة، فإسرائيل تقف ما بين مطالبة واشنطن باستمرار المعركة أشهراً عدة حتى تحقّق كامل أهدافها، وما بين مطالبة “حماس” بالاستسلام في معركة لم تخسر فيها كما خسرت إسرائيل.
صحيحٌ سقط قرابة 19 ألف قتيل وقاربت أعداد المصابين 100 ألف فضلاً عن 1.5 مليون لاجئ ومتشرّد ونازح فلسطيني، ولكن إسرائيل لم تحقّق هدفها من تحرير أسير واحد، وعندما حاولت قُتل الأسير فتحوّل حلمها إلى كابوس وجرجرت أذيال الخيبة والهزيمة من جديد، فضلاً عن أعداد القتلى الإسرائيليين الذين وصلوا إلى أكثر من 120 مجنداً وضابطاً منذ الاجتياح البري للقطاع، وما زالت الأعداد تتزايد مع وجود إصابات كثيرة تتكتم عليها إسرائيل بعضها في وضع صحي حرج.
لا يوجد حل للحرب الحالية إلاّ بإقرار وقف إطلاق النّار وعودة المفاوضات من جديد حتى يتمّ إطلاق الأسرى الإسرائيليين، وما دون ذلك لن تحقّق إسرائيل أي تقدّم في مغامرتها البرّية في القطاع، وهو ما أدركته مؤخراً، فعاد ضباط الموساد إلى قطر بهدف التشاور والتفاوض مع قيادات الحركة المقيمين في الدوحة.
وهذا يؤكّد أنّ فرقاً شاسعاً بين ما تأمله إسرائيل في هذه الحرب وما هي مضطرة إليه، وعلى المجتمع الدولي أنّ يتعامل بمنطقية ونضج مع الصراع الفلسطيني الذي استمر أكثر من سبعين عاماً وقد يستمر وقتاً أطول، فشرارة المعركة قد تصل إلى المنطقة بأكملها وتُهدّد أمن العالم ومصالحه في الوقت نفسه، وهو سبب تحرّك واشنطن وضغطها على إسرائيل من أجل وقف هذه الحرب.
ونُعيد ونكرّر أنّ هدف واشنطن هو الحفاظ على أمن إسرائيل من وراء ممارسة هذه الضغوط، فهي تُدرك أنّ خسائرها سوف تزداد مع استمرار الحرب ولن تحقّق أياً من الأهداف المعلنة ولن يتمّ تحرير أسير واحد إلاّ من خلال التفاوض، وبالتالي هي تدفع في اتجاه الحلول العملية الآمنة لإسرائيل، خصوصاً أنّ الأخيرة تُريد أن تحصل على الأمن والأرض معاً.
ما لم تُدركه إسرائيل أنّ تحقيق أمنها مرتبط بتحقيق أمن الفلسطينيين. ليس ذلك فقط، ولكن نظرية الأمن الإسرائيلية نفسها مرهونة بإقامة دولة فلسطينية، تسويف ذلك ظهرت نتائجه في هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وسوف يظهر في مواجهات أخرى؛ وبالتالي إعلان الدولة الفلسطينية أو الموافقة عليها هو تبريد للصراع أو لإنهائه على الأقل بشكل مرحلي، وإعلان الدولة الفلسطينية ليس منحة إسرائيلية توافق عليها وقتما تشاء.
وحديثنا هنا ليس مرتبطاً بالحق الفلسطيني في أرضه التي احتُلت، ولكن هو حديث يقترب من تقديم حلول استراتيجية وعملية على المدى البعيد، ونقاشنا في هذا الطرح مرتبط بمحاولة إنهاء الصراع، وإن كنّا نرى أنّ محفّزات الصراع سوف تظلّ موجودة طالما أنّ العقلية الإسرائيلية تحكم بهذه الطريقة التي تعتمد القوة وسيلةً للردع، فهي تُريد أن تُحقّق أمنها على حساب أمن الدول المجاورة، سواء في مصر أو سوريا أو لبنان أو الأردن.
وهذا جزء من أزمة إسرائيل الأخيرة في الحرب التي ما زالت قائمة حتى الآن؛ حيث دخلت الحرب ضدّ كل الفلسطينيين من خلال القصف العشوائي، فقتلت أكثر 12 ألفاً من الأطفال والنساء، كما أنّها استفزت الشعوب والأنظمة العربية، فوسّعت بذلك دائرة الحرب، وعلى القدر نفسه كان هجومها على مصر والأردن والمطالبات الدائمة لأهل غزة بالبحث لهم عن مكان في سيناء أو الأردن، رغم أنّ مشكلة إسرائيل مع حماس وليس مع كل ما ذكرت.
الدولة التي تُحارب الجميع في وقت واحد ولا تُقدّر عواقب المعركة البرّية التي ما زالت مصرّة عليها، لم تفهم المعركة ولم تُقدّرها عسكرياً بشكل جيد على الأقل حتى الآن؛ لم تفهم العقلية الفلسطينية بل لم تفهم عقلية العرب وبالطبع لم تفهم عقل “حماس”، في حين الأخيرة فهمت مركز القرار في إسرائيل، ودائماً ما تتوقع هذا القرار من خلال فهم عقل إسرائيل الحاكم، وهو ما خلق التباين القائم حالياً عند هذه النقطة في الصراع الحالي.