آلاف سكان مدينة السويداء الذين يعودون إلى بيوتهم تستقبلهم مشاهد صادمة لأثاث مدمر وبيوت محروقة وبنى تحتية مدمرة، وجثث غير مدفونة. كثيرون منهم لا يعرفون كيفية الترميم وتمويل الأضرار التي لحقت بهم، وشهوة الانتقام قريبة. وأبناء العشائر البدوية الذين يعيشون قرب السويداء، الذين خرج من بينهم المشاغبون الذين بدأوا موجة المواجهات الدموية، لا يهدأون.
حسب التقارير في الشبكات الاجتماعية المحلية، هرب الكثير من بيوتهم ويخافون العودة إليها خشية انتقام الدروز. البنود الـ 14 في اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوقيع عليه الأربعاء الماضي بين شخصيات في قيادة الدروز في سوريا ونظام أحمد الشرع، بعيدة حتى الآن عن توفير الهدوء، خاصة عندما أعلن الزعيم الدرزي الروحي حكمت الهجري، وهو أحد الزعماء الثلاثة المعروفين، عدم موافقته على الاتفاق ولا ينوي إجراء المفاوضات مع هذا النظام المضطرب وعصابته.
هذا اتفاق طموح، ويمثل خارطة طريق هدفها ترسيخ شبكة العلاقات بين الطائفة الدرزية والنظام، وهو يشمل بنوداً مثل دمج محافظة السويداء بالكامل في الدولة، وتفعيل جميع مؤسسات الدولة فيها، والاتفاق على أن سوريا ستكون دولة موحدة، تخضع فيها السويداء سيادة الدولة. ولكن اختبار الاتفاق سيكون في تنفيذ البنود العملية التي يتناقض بعضها لمبدأ “الدولة السيادية”. مثلاً، ينص الاتفاق على أن الحواجز التي ستقام للرقابة على دخول المحافظة والخروج منها، فيها رجال شرطة من أبناء المحافظة (أي دروز فقط)، وأن الحفاظ على الأمن سيعتمد على ضباط من أبناء المحافظة.
معنى ذلك هو الاعتراف بسيطرة أمنية للدروز على المحافظة، إلى جانب تنازل النظام (على الأقل في هذه الأثناء) عن ضم كامل المحافظة إلى الدولة. ثمة قضية مهمة، وهي مستقبل السلاح الموجود لدى الدروز. حسب الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بينهم وبين النظام في أيار الماضي، بعد المواجهة الدموية في نيسان، يمكن تسليم السلاح للدولة؛ وهو البند الذي أثار خلافاً كبيراً داخل القيادة الروحية وفي أوساط المليشيات الستة الدرزية.
حسب الاتفاق الجديد، سيتم تخفيف هذا البند بشكل كبير، وينص الآن على أنه “سيتم الاتفاق على آلية لتسليم السلاح الثقيل بالتعاون مع وزارة الداخلية ووزارة الدفاع لمنع ظاهرة وجود سلاح غير مرخص من قبل الدولة، وبتنسيق مع قيادة الدروز مع الحفاظ على مكانة السويداء الخاصة”. هذا النص لا يوضح مصير سلاح الدروز وما هي مكانة الدولة.
لهذه القضية أهمية كبيرة تتجاوز تحديد الترتيبات الأمنية في المدينة وفي المحافظة الدرزية؛ فهي تقوض أساس سيادة النظام في الأراضي السورية كلها، وربما تكون لها تداعيات على شبكة العلاقات التي يطمح الشرع إلى تأسيسها أيضاً مع الأقلية الكردية، ومصير الاتفاق الذي وقع عليه مع زعيم “قوات سوريا الديمقراطية”، الذراع العسكري للحكم الذاتي الكردي في الدولة.
حسب هذا الاتفاق، قد تندمج القوات الكردية أيضاً في الجيش السوري. والأكراد أيضاً مثل الدروز، لا يسارعون لتسليم السلاح. إن استعدادهم ليصبحوا جزءاً من الجيش الوطني يشترطونه بالعمل كوحدات مستقلة، طائفية، داخل الجيش، وهو الشرط الذي يرفضه الشرع.
الإدارة الأمريكية تستخدم الآن ضغطاً كبيراً على الأكراد للانضمام للجيش السوري، وبذلك استكمال سيطرة الشرع على سوريا كلها، حتى تستطيع الولايات المتحدة نفسها إنهاء وجودها في سوريا وسحب كل قواتها. هذه عملية متسلسلة، وإن حل الخلافات بين الأكراد والنظام في سوريا وإخضاع القوات الكردية لوزارة الدفاع الوطنية سينهي الحرب بين تركيا والأكراد في سوريا، الذين ما زالوا يحصلون على رعاية وتمويل من الولايات المتحدة، رغم أن ذلك بدأ يتضاءل.
من هنا تأتي أهمية تطبيق الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الدروز والنظام؛ فبحسب هذا الاتفاق، سيحدد الأكراد خطواتهم القادمة. الخوف الأمريكي الآن هو أن الاتفاق مع الدروز سيشكل سابقة ونموذجاً سيطالب الأكراد به لأنفسهم، والمعنى أنهم سيحتفظون بالسلاح وتأخير استكمال الخارطة الإقليمية التي تطمح إليها الولايات المتحدة.
ليست هذه هي الحلقة الأخيرة في سلسلة الردود التي قد تتطور من أحداث السويداء ومن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه مع الدروز. ففي لبنان يجري صراع في أعلى الجبل لنزع سلاح حزب الله وتجميع السلاح غير المرخص في يد الدولة. والولايات المتحدة تعمل على لي ذراع الحكومة ودفعها إلى استكمال العملية حتى نهاية السنة. الجيش اللبناني يظهر قدرة كبيرة على سيطرته على معظم قواعد ومواقع حزب الله في جنوب الليطاني، وبدأ خطوات لنزع السلاح الفلسطيني خارج مخيمات اللاجئين، وبعد ذلك داخلها.
لكن القصة أكثر تعقيداً في شمال الليطاني، حيث لم يوافق حزب الله مبدئياً بعد، بالأحرى عملياً، على نزع سلاحه ونقله إلى الحكومة. قبل ثلاثة أيام، على خلفية أحداث السويداء، وجدت شماعة لحزب الله جاءت على يد الدروز في لبنان.
السياسي الدرزي، وئام وهاب، أعلن عن إقامة “جيش الوحدة”، وهو جيش إنقاذ هدفه مساعدة الدروز في سوريا. في تغريدة في شبكة “اكس”، طلب وهاب من جميع الدروز في لبنان وإسرائيل وسوريا تأسيس مقاومة مستقلة ضد النظام السوري. في تغريدة، دعا حزب الله أيضاً (بدون ذكر اسم التنظيم) إلى “الوقوف إلى جانب الدروز الذين يواجهون الإبادة. نطلب منكم رسمياً توفير السلاح وتدريب الناس”. هناك شك بأن طلب وهاب هذا سيحصل على دعم واسع من الجمهور في لبنان، وحزب الله ليس بحاجة إلى “مبرر إنساني” لوهاب من أجل التمسك بسلاحه، لكن إذا اعتقد وهاب أن على دروز لبنان الاحتفاظ بالسلاح للدفاع عن أنفسهم وعن إخوتهم في سوريا وتجاهل نية الرئيس جوزيف عون تجميع السلاح في يد الدولة، فلماذا يتصرف حزب الله بشكل مختلف؟
يجب التأكيد على أن دعوة وهاب، السياسي الذي يغير مواقفه كما يغير ملابسه، والذي كان حليف حزب الله ونظام الأسد، ثم غير موقفه وطالب بالتطبيع مع إسرائيل، ليست دعوة نظيفة أيضاً الآن من تصفية حسابات سياسية مع خصمه وليد جنبلاط.
جنبلاط، الذي كان زعيم الحزب التقدمي الدرزي (المنصب الذي ورثه لابنه تيمور)، وهو مثل وهاب، يتمتع بقدرة مثيرة للانطباع على تغيير مواقفه، هو الآن يؤيد تسليم السلاح غير المرخص للدولة، وحتى إنه أعلن قبل ثلاثة أسابيع بأنه قرر تسليم سلاح ميلشياته للجيش.
“آمل من جميع الأحزاب اللبنانية وغير اللبنانية التي تمتلك السلاح أن تسلمه للدولة”، قال جنبلاط. وقال إنه يوجه أقواله لحزب الله. لذلك، تلقى في حينه انتقاداً لاذعاً من وهاب، الذي أوضح له بأنه “لا يمثل جميع الدروز، وأنه ليس الوقت المناسب لتسليم السلاح”.
الآن، الأحداث الأخيرة في السويداء تعطي دعماً لموقف وهاب، على الأقل في أوساط جزء من الدروز في لبنان، وبعد ذلك، قد تؤثر أيضاً على نزع سلاح جميع المليشيات الدرزية في لبنان. وهكذا، ربما تملي السياسة الداخلية الدرزية في سوريا ولبنان وتيرة تطبيق الخطط الحكومية في الدولتين لجمع السلاح غير القانوني في يدها وفرض السيادة في كل أراضيها، ثم الحصول على مساعدات ضرورية لها لإعادة ترميم أنقاض حروبها.
إن تدخل إسرائيل في أحداث السويداء يحولها إلى لاعب رئيسي في السياسة الداخلية السورية، وفي لبنان أيضاً. تطرح إسرائيل نفسها كدرع واق لجميع الدروز في سوريا، لكن عملياً، جزء من القيادة الدرزية في السويداء يعارض هذا التدخل ويعتبره تدخلاً في شؤون الطائفة وفي نسيج العلاقات بينها وبين النظام السوري.
في حين أن الهجري يستصرخ المجتمع الدولي لمساعدة الدروز، ويطالب إسرائيل بالتدخل، وهو الموقف المدعوم من قبل الزعيم الدرزي في إسرائيل موفق طريف، فإن نظيره (خصمه) يوسف جربوع، الذي وقع على اتفاق وقف إطلاق النار، يعارض هذا التدخل وأي تدخل دولي. يشارك في هذا الموقف أيضاً جنبلاط اللبناني، الذي يحذر الدروز من الوقوع في “شرك إسرائيل” الذي سيحولهم إلى ورقة في لعبتها الإقليمية.
يبدو أنه بنفس الطريقة، يجدر تحذير إسرائيل نفسها من الوقوع في شرك اللعبة السياسية الطائفية التي قد تضر مصالحها.