–
كلُّ من ظنّ أن في وسع السوريين الانتقال من نظام إلى آخر، في فترة لا تتجاوز الثمانية أشهر، من دون إرهاصات دموية، يجهل فعلياً حالات الانتقال المماثلة عبر التاريخ. أبرز النماذج أفغانستان ما بعد الاحتلال السوفييتي، والعراق ما بعد الاحتلال الأميركي، وليبيا ما بعد معمّر القذافي، واليمن ما بعد علي عبد الله صالح، وغيرها كثر. غير أن الحالة السورية، في الساحل أولاً، ثمّ في السويداء، تطرح تساؤلاتٍ جمّةً بشأن قدرة الحكم الجديد على استيعاب مكوّنات أو أقليات أو طوائف صغيرة، مهما كان اسمها، من جهة، وحول اعتقاد هذه الطوائف أن “الحماية” ممكنة خارج نظام الأسد، وتحديداً في ظلال نظام أحمد الشرع، بما يضمّ من تيارات محلية وأجنبية متشدّدة، من جهة أخرى.
لا تستقيم مثل تلك الحالة في سياقات تقليدية. لم يتعلّق الأمر قطّ بالعدد في سورية. العلويون، الذين حكموا البلاد تحت أجنحة حزب البعث، تمكّنوا من فعل ذلك مع الاستعانة بعائلات أو أرستقراطية سُنّية متغلغلة في الاقتصاد السوري، وعلى امتداد الجغرافية السورية. السُّنّة اليوم، حكّام سورية الفعليون، يعلمون أن هذه القوة لا تعني السحق، باسم “الخيانة” أو “الغدر”، بل إن مثل ذلك لا يحتاج إلى أكثر من تنفيذ ما قاله الشرع مراراً حول الاعتماد على كلّ الطوائف السورية لبناء سورية الجديدة. ذلك لأن ما يجري في السويداء لن ينتهي بانتهاء الدروز، إذا كان هناك مثل هذا التفكير. كذلك، لن ينتهي بانتهاء العلويين في الساحل ولا الأكراد في الجزيرة. في تلك المسألة يتجسّد تكرار الدور التهجيري للأسد بحقّ الشعب السوري عقداً ونيّف.
في المقابل، ليس فقط الدروز، بل أيضاً الأكراد، سعوا مرّات، جماعاتٍ أو أفراداً، إلى الحصول على حمايات دولية، لإحياء الآمال في بناء إدارة ذاتية على الأقلّ، في حال كان صعباً تشكيل دولة كاملة السيادة. في ذلك، ترجمة لظلم تعرّض له هؤلاء طوال الحكم البعثي، ولا يمكن هنا الانتهاء من الأسد والإبقاء على عقليته. وطبيعي أن تطلّعات السلطات الجديدة في دمشق، المتمتّعة بدعم دولي قلّ نظيره لأيّ سلطة انتقالية، تنحو نحو جمع السلاح وتوحيد القوى تحت راية الدولة المركزية. لكن تجربة الساحل دفعت الدروز والبدو وعشائر دير الزور والأكراد إلى التمسّك بسلاحهم. إذاً، هناك مشكلة وليس مطلوباً من السلطة أن تنتظر الآخر كي يبادر، بل تتحتّم عليها المبادرة، وضمن منطق استيعابي يسمح لها بتمتين قوتها المركزية لمصلحة كلّ شعبها لا لمصلحة أجزاء منه.
البديل عن ذلك لن يكون “قوةً قاهرةً”، سواء لوجود إسرائيل عنصراً استغلالياً للأزمات، أو أن “القوة القاهرة” أضحت أضعف ميدانياً بفعل الهجمات الإسرائيلية التي دمّرت عتاد الجيش السوري في الأشهر الماضية. “القوة القاهرة” تعني تكريس القهر فلا يعود يُسمح ببناء دولة فعلية يطمح إليها السوريون، وأولهم الشرع، ولا حتى تشكيل دويلات طائفية معترف بها دولياً. كأن سيناريو الحروب الأسدية الداخلية يتكرر 14 عاماً أخرى. فائض القوة هنا لن يُترجم سوى في إرساء القانون على الجميع، لأنه عدا ذلك، سيتراجع من يرغب حقاً في دعم السوريين، ولن يتردّد في تركهم لمصيرهم.
أمّا الإسرائيليون، الذين “يدافعون عن إخوانهم الدروز”، فأرادوا لحظةً علنيةً للخروج بمظهر “حماة أقلية مضطهدة”. وهو بأيّ حال ما تحدّث عنه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بقوله: “الأقلّيات في المنطقة ستحتاج إلى التماسك معاً”. وقتها لم يكن الأسد قد سقط، ولا أُقرَّ وقف إطلاق النار في لبنان. أمام دمشق مهمة تقضي بمنع تل أبيب من السيطرة على الجنوب السوري، لا تبدأ من حوار تقليدي ولا تنتهي بحلول جدّية، بل بفهم حقيقة أن تكرار حلول سابقة سيستولد المشاكل نفسها. هل يحتاج حكام دمشق إلى ذلك؟