تعدّ اليد من أعظم تجلّيات الميكانيكا البيولوجية للجسد البشري، وهي من أبرز التكيّفات الحيوية في تاريخ التطوّر، والتي نقلت الإنسان من خانة الرئيسيات مع القردة ليكون إنسانًا مفردًا عنها، فهي آلته الفاعلة في الوجود بشكل مباشر. وأمام هذه الميزات التي تملكها اليد أصبحت مدارًا للتفكّر الإنساني لدورها الحاسم في نشوء حضارته، فهي ليست متلقية سلبية لأوامر الدماغ، بل تعيد تشكيله، من خلال وضع أفكاره موضع التنفيذ العملي. وإذا اعتبرنا أنّ البصر والسمع من أهم المُدخلات الأساسية في عقل الإنسان والتي تزوّده بالمعرفة عن نفسه والعالم المحيط به، فلولا تلك الحاسّتين لوقع الإنسان في عنتٍ شديد من أجل الحصول على المعلومات واستخلاص المعرفة، وخاصة في بدايات وجوده على الأرض. وبالمثل لو لم تكن اليد عضوًا أساسيًا في تركيبة الإنسان الجسدية، لما استطاع أن ينقل أفكاره إلى حيّز الفعل. هذه الأهمية الكبيرة لليد مكّنتها من أن تصبح استعارة فعلية أو مجازية للتعبير عن الفعالية الإلهية في الوجود على الرغم من المنحى الإنساني في تجريد الآلهة عن الخصائص البشرية. لذلك ليس غريبًا أن يكون التشبيه المحتذى للفعالية الإلهية مصوّرًا باليد، سواء كانت هذه الأدبيات كتابية أو أيقونية، ما دام الإنسان قد خُلق على صورة الإله.
كانت اليد استعارة مفضّلة لتمثيل كلمة الإله أو فعله في الثقافة الإنسانية، فمن لوحات معبد “دورا أوروبوس” اليهودي في سوريا وصولًا إلى لوحات مايكل أنجلو على سقف كنيسة “سيستينا” في روما، ظهرت اليد كاستعارة كتابية أو كرسم، عندما رُغب بتمثيل فعل الإله أو نطقه من دون مخالفة القاعدة التي تنصّ على أنّ لا يكون هناك رسمٌ كامل له أو نحت، حيث كانت تصوّر يد الإله خارجة من داخل غيمة أو من جانب اللوحة لتعبّر عن كلمة الإله وفعله.
آثار معبد دورا أوروبوس اليهودي في سورية، شاهد على الحضارات القديمة التي استخدمت اليد كرمز للقوة الإلهية والفعل المقدس (Getty)
ولم تخالف ما يُسمى بالديانات الوثنية هذه الاستعارة حيث نرى الإله أتون عند الفراعنة المرمّز إليه بقرص الشمس والذي يُمثّل لأشعّته بأيدٍ كثيرة دلالة على العطاء الذي لا ينقطع من الإله أتون. وبالمثل كانت الديانة البراهمية في الهند، فالإله براهما، وشيفا، وفيشنو عادة ما يصوّرون أو ينحتون بأيدٍ عديدة دلالة على تعدّد أفعالهم. وإذا ذهبنا أعمق في التاريخ إلى الإنسان البدائي نجد أنّه قد ترك لنا رسومًا ليديه، لا لوجهه، في كهف “شوفيه” في فرنسا على سبيل المثال. تقول أسطورة من حضارة بالي في إندونيسيا بأنّ الإله هو من حفر تلك الكهوف التي سكنها الإنسان في تلك الأزمنة القديمة. ونستطيع بموجب هذه الأسطورة أن نفسّر وجود رسوم للأيدي في الكهوف، كإشارة للفاعل؛ أي أنّ الإنسان هو الذي رسم تلك الحيوانات البديعة على جدران الكهوف.
“آلة الآلات”
قال أرسطو عن اليد بأنّها “آلة الآلات” وقد عدّها هدية الطبيعة لهذا الكائن الذكي المدعو بالإنسان، فهو يرى بأنّ الطبيعة كالحكيم تمنح الكائنات الأعضاء المناسبة لها، ولا أنسب للإنسان الذكي من اليد.
“قال أرسطو عن اليد بأنها آلة الآلات وقد عدها هدية الطبيعة لهذا الكائن الذكي المدعو بالإنسان، فهو يرى بأن الطبيعة كالحكيم تمنح الكائنات الأعضاء المناسبة لها”
وعندما شرح فريدريك إنجلز في كتابه “ديالكتيك الطبيعة” عن أهمية العمل في حياة الإنسان، وجد أنّ العمل هو الذي حوّل القرد إلى إنسان ولم يكن ليحدث ذلك لولا اليد، حتى أنّه منح اليد كونها آلة العمل أهمية كبيرة، ليس على صعيد العمل فقط، بل لأنّها ساهمت في نشوء اللغة، فالأصوات المرافقة للعمل كانت من الإرهاصات الأولى للغة، فاليد تومئ وتشير وهذا يعني التواصل الذي تحوّل فيما بعد ليصبح نطقًا. إنّ اليد وفق إنجلز هي التي خلقت العمل والعمل خلق اللغة، وكلاهما كوّنا المجتمع الإنساني، وبقدر ما يسيطر العقل على اليد تعمل اليد على تطوير العقل. ويؤكّد المفكّر إرنست فيشر ذلك في كتابه “ضرورة الفنّ” بأنّه لو لم يكن للكائن السابق للإنسان يد والذي تطوّر فيما بعد إلى إنسان، لم يكن هناك من حضارة، فاليد العضو الأساسي للحضارة. وعلى نفس المنوال قال اللغوي والمفكر الروماني كوينتيليان في القرن الأول الميلادي عن اليد بأنّها: “يكاد يُقال بأنّ اليدين تتحدثان! ألا نستخدمهما للمطالبة، والوعد، والاستدعاء، والرفض، والتهديد، والتوسّل، والتعبير عن النفور أو الخوف، والتساؤل أو الإنكار؟ ألا نستخدمهما للإشارة إلى الفرح، والحزن، والتردّد، والاعتراف، والتوبة، والقياس، والكمية، والعدد، والوقت؟ ألا تملكان القدرة على الإثارة والمنع، والتعبير عن الموافقة، والدهشة، والخجل؟”. إذًا اليد ليست آلة محضة بل آلة لها روح!
اليد ظاهر الروح
عندما أراد هيغل أن يشرح كيف تتجلّى الروح في العالم في كتابه “فينومينولوجيا الروح” لم يجد غير اليد واللغة والساقين للتمثيل لفعاليتها في الوجود، فإذا كانت الساقان أداته في التنقل واللغة وسيلته في التواصل، فاليد هي الركيزة الأساسية لفعاليته في الوجود. وهو يرى بأنّ باطن الروح لا يمكن أن يتجلّى إلّا بصفته عضوًا، حيث عدّ الفم والساق واليد المظهر المعبّر عن الروح ومن دونها يبقى الباطن باطنًا غير مصرح عنه.
سقف كنيسة سيستينا في روما مُزيّن برسومات مايكل أنجلو، حيث تظهر يد الله في لوحة خلق آدم كاستعارة مقدسة للفعالية الإلهية (Getty)
وهذه الرؤية الفلسفية تتقاطع مع الرؤية الدينية عن الإله، فالإله المتجرّد المتعالي يشبه الروح في باطنيتها ومن دون تلك الآلات من فم وساق ويد سيبقى كنزًا مخفيًا غير مدرَك ولا مدرِك بالنسبة للإنسان. لكنّ هذا الاستخلاص الفلسفي لهيغل سبقته تجاذبات بين الفلاسفة عن كينونة اليد ومعناها ودورها في حياة الإنسان.
يعارض أرسطو الفيلسوف الطبيعي أنكساغوراس (500-428 ق.م) الذي زعم بأنّ اليد من جعلت الإنسان ذكيًا، فأرسطو كان يرى بأنّ كون الإنسان ذكيًا رتب له عضوًا كاليد. لكن لماذا هذا الاختلاف بين الرؤيتين؟ قال أرسطو عن اليد بأنّها “آلة الآلات” فهي صانعة كل آلة وعلى الرغم من تلك الصفة إلّا أنّ أرسطو كان يميل إلى رؤية سلبية للجسد غير مؤثرة في العقل، على العكس من أنكساغوراس. ليس التعارض بينهما متمنعًا على الحلّ، فهما يقولان الشيء ذاته عن اليد، لكن لكلّ منهما زاويته في الرؤية. لربما يعود الخلاف بينهما إلى أنّ أرسطو يرى اليد ضمن النظرة الأداتية، بينما أنكساغوراس يراها أبعد من الأداتية، أي أنّها ليست آلة فقط. وقد أوضح الفارابي هذه النقطة في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” حيث قارن بين اليد ومبضع الجراح، فالمبضع أداة مفارقة للجسد الإنساني، في حين اليد أداة متصلة بالجسد الإنساني. هذه المحايثة المباشرة لليد تعني أنّ اليد متواصلة مع العقل بشكل مباشر ومن هذا المنطلق رفع الفارابي اليد عن الأداتية المحضة. ويُعدّ تحليل الفارابي خطوة مهمة في تحرير اليد من نظرة أرسطو الأداتية المحضة لليد. وعلى ما يبدو أنّ ديكارت أدلى بدلوه أيضًا في طبيعة اليد، فقد ذكر مثالًا عن طفلة قُطعت ذراعها وأخفي الأمر عنها، لكنّها كانت تشعر بآلام في أصابع الذراع المقطوعة وهو ما يُعرف اليوم طبيًا بالطرف الشبحي. رأى ديكارت بأنّ الألم في النفس وليس في الأصابع، ولا يمكن أن يكون في اليد، فهو لم يكن يستطيع أن يتصوّر بأنّ هذا الألم ناتج عن تداخل أعصاب اليد في النفس حتى لو بعد البتر، فبالنسبة لديكارت الألم موجود في النفس واليد خارج النفس، لذلك لا تتألّم اليد.
“عندما أراد هيغل أن يشرح كيف تتجلى الروح في العالم لم يجد غير اليد واللغة والساقين للتمثيل لفعاليتها في الوجود، فاليد هي الركيزة الأساسية لفعاليته”
لقد كانت نظرته للجسد بأنّه مجرد آلة وضمنًا اليد وهذه نظرة كلاسيكية مستقاة من أرسطو. إنّ المثال الذي طرحه ديكارت عن الطرف الشبحي أثبت من حيث لا يريد، بأنّ الألم هناك في الأصابع وإن كان شبحيًا، فهو موجود؛ وهذا دليل على رؤية الفارابي، بأنّ اليد آلة مواصلة للنفس، لا مجرد أداة خارجة عنها، وما ألم الأصابع إلّا دلالة على هذه التواصلية حتى بعد البتر. لقد كانت نظرة ديكارت كلاسيكية للجسد، وأنّه مجرد متلقٍ سلبي لفعالية الروح، لكنّ هيغل أعاد طرح القضية برؤية أخرى تعيد للجسد وأعضائه دورًا جليًا في تجلي الروح في العالم كما رأينا أعلاه. ومن رؤية هيغل قارب هيدغر اليد، فلم يكتف بالنظرة الأداتية لليد، بل اعتبرها (العضو) الذي يميّز الإنسان، وقال بأنّ القردة لا تملك يدًا، فما تقوم به اليد البشرية لا تستطيع القردة أن تفعله بأيديها المشابهة لليد البشرية: “فحرمان الحيوان من اليد، يعني حرمانه من الفكر واللغة، ومن القدرة على الهبة والعطاء”، وقد قال عن اليد بأنّها تفكّر وتتكلّم. وقد شرح جاك دريدا هذه النقطة من كلام هيدغر بأنّ العقل حاضر في كلّ حركات اليد، وأنّ اليد ليست أداة محضة كما رآها أرسطو وديكارت.
قد تكون هذه الأفكار عن اليد قد ذهب زمنها، فبعد أن أثبت العلم، بأنّ الجسد يقف ندًا أمام الدماغ (موطن العقل) لأنّنا لا نفكر بشكل محض ومعزول عن جسدنا. وبقدر ما يملي العقل على الجسد من أوامر يبادله الجسد بأوامر أخرى، فالعلاقة ديالكتيكية بين العقل والجسد ولا يقوم أحدهما من دون الآخر. هذه النظرة التي لم تعد تفصل بين نفس وجسد كانت الرواقية قد وضعتها موضع التطبيق منذ زمن طويل، حيث تشرح الرواقية كيفية تكوّن المعرفة في العقل البشري عن طريق أخذ اليد كمثال، لا عضوًا آخر، لأنّها الأقدر على التعبير عن مراحل نشوء المعرفة في الدماغ البشري. تشرح الرواقية بأنّ اليد المبسوطة تعني تلقي المعلومات، ومن ثمّ تقبض اليد على تلك المعلومات مشكّلة قبضة؛ وأخيرًا تضع اليد الأخرى كفّها على قبضة اليد التي احتازت المعرفة، أي أنّ المعلومات قد استوعبت تمامًا، ولا يصل لهذه المرحلة إلّا الفيلسوف. لم تكن استعارة الرواقية لليد مجرد استعارة عابرة، بل لأنّ اليد هي التمثيل الأصح عن الفكر كما قال هيدغر.
تُعدّ الفلسفة الوجودية المعبّر الأكبر عن فعالية الإنسان في هذا الوجود من بين فلسفات عديدة. فالوجودية كفلسفة تمنح الإنسان سيطرته المطلقة على وجوده بعيدًا عن الآلهة أو جهات أخرى، فلا يد تعلوه كما تعلو يدٌ فوق الدمى في المسرح. يقول سارتر في رواية “الغثيان” على لسان بطلها (روكونتان): “أرى يدي ممدودة على الطاولة. إنّها حيّة؛ إنّها أنا. إنّها مستلقية على ظهرها، تريني بطنها السمين، تبدو كحيوان مقلوب. أُسلي نفسي بتحريكها بسرعة كبيرة، كمخالب سلطعون سقط مقلوبًا… أشعر بيدي. إنّها أنا”. كان بإمكان سارتر أن يحيل جوهر الوجودية للعقل، لكنّه تبصّر تمثال “المفكّر” للنحّات رودان ورأى كيف تسند اليد ذلك الرأس ولولاها لتهاوى.