ملخص
التجارب وراءنا ومن حولنا وأمامنا. ليس للدروز ولا للعلويين ولا للكرد ولا للمسيحيين مشاريع أو حلول خاصة. ولا حماية دولية لأية طائفة، وبالذات ادعاءات إسرائيل بحماية الدروز. فما يحمي الأكثرية والأقليات هو الدولة العادلة، دولة المواطنة التي لا تمييز فيها بحسب الدين أو المذهب أو العرق.
سوريا الجديدة تبدو، ولو من موقع مختلف، كأنها تسير على خطى سوريا القديمة التي انهار نظامها الأمني. والكل يبحث عن الترجمة العملية على الأرض لخطاب الرئيس أحمد الشرع ورهانه على “سوريا بكل أطيافها”.
وإذا كانت الجهود الأميركية والعربية والتركية أنقذت سوريا من خطر عظيم يشكله الاعتداء الإسرائيلي على قوات الإدارة الجديدة بحجة “حماية الدروز”، فإن الحاجة ماسة إلى جهود داخلية لإنقاذ سوريا من خطر أعظم في الداخل، خطر التكفير المرادف للقتل وسياسة التهميش ثم الاستئصال للأقليات والاشتباك حتى مع الأكثرية التي تؤمن بأنها “أمة وسط”، لا سلفية ولا متشددة. لا بل إن الذين يحاولون في دمشق إحياء الدولة الأموية يتحدثون عن دولة أخرى غير التي أسسها معاوية بن أبي سفيان، وكان المسيحيون في صدر دواوينها.
وليس أخطر على سوريا من الفوضى وفلتان السلاح خارج السلطة سوى العقلية السلفية التي تحرك حامل السلاح الرسمي، فالذهاب إلى فك الاشتباك في أي مكان يصبح فرصة للقتل والسلب والنهب، أما حفظ الأمن فإنه يتحول من حملة عسكرية إلى غزو كامل الأوصاف، من مذابح الساحل إلى “غزوة السويداء”، ولا إنكار بل مباهاة بالفظائع ضد المدنيين وتسجيلها في فيديوهات. ولم يكن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يبالغ في الكلام على “قلق عميق إزاء التطهير العرقي الذي تنفذه جماعات متشددة في سوريا، تطهير عرقي حقيقي وقتل للناس على أساس عرقهم ودينهم”.
والسؤال هو، هل الأكثرية السنية هي الحاكمة أم أن كل السلطة في يد فريق سلفي جهادي؟ أين الوعود حول التمثيل الشامل في السلطة للمجتمع السوري المتنوع؟ وهل ينجح حكم سلطوي مركزي ضيق الإطار ولو مارس “الحكم بالشوكة”؟ وماذا لو اختفت الأقليات المسيحية والعلوية والدرزية والشيعية والإسماعيلية؟ هل تُحل المشكلات التي يحمل أثقالها السوريون أم إن سوريا لن تكون سوريا؟ وما هو البرنامج الذي يأخذ البلد من حفرة النظام السابق إلى جنة الإنجازات وصناعة المستقبل؟
الشيخ حسن البنا مؤسس حركة “الإخوان المسلمين” رد على من دعاه إلى كتابة برنامج للإخوان بالقول “الناس يجتمعون على مبادئ، لا على تفاصيل. وإذا دخلنا في التفاصيل فسنختلف ونتفرع ولا تنتهي الأمور إلى خير”، لكنه لم يتردد في الحديث عن “أستاذية للعالم”. وبالفعل، فإن الإسلام السياسي فشل عندما دخل في تفاصيل الحكم والسياسات الاقتصادية والمالية والتعليمية. ومن هنا حديث المتخصص الفرنسي في أمور الإسلام السياسي أوليفييه روا عن” صعود إسلام ما بعد الدولة”. وما تحتاج إليه سوريا اليوم هو الانتقال من فصائل ما دون الدولة إلى بناء الدولة، ولا دولة تبني على الإقصاء والتطرف، ولا مستقبل للدولة الأمنية فقط في عصر التكنولوجيا.
صدى السويداء يلامس الجوار من إسرائيل إلى العراق والأردن
والتجارب وراءنا ومن حولنا وأمامنا. ليس للدروز ولا للعلويين ولا للكرد ولا للمسيحيين مشاريع أو حلول خاصة، ولا حماية دولية لأية طائفة، وبالذات ادعاءات إسرائيل بحماية الدروز، فما يحمي الأكثرية والأقليات هو الدولة العادلة، دولة المواطنة التي لا تمييز فيها بحسب الدين أو المذهب أو العرق. الدولة الديمقراطية التي لا مهرب من الذهاب إليها للحفاظ على سوريا ودورها، وإن كانت الإدارة الجديدة تتجنب حتى استخدام تعبير الديمقراطية. ولا مهرب أيضاً من المعادلة المكتوبة على الجدار، إما حل وطني للبلد وأهله وإما حرب أهلية دائمة، إما وطن يعرف كيف يحمي استقلال قراره وإما “ساحة” للصراعات الإقليمية والدولية. وسوريا عانت خلال 14 عاماً كثيراً من الصراعات على أرضها أبرزها الصراعات المرتبطة بالنفوذ الإيراني وأذرعه والمطامع الإسرائيلية في غياب الدور العربي، سوريا اللاعب الإقليمي صارت سوريا اللعبة الإقليمية والدولية.
وليس الانفتاح الأميركي والأوروبي والعربي على الرئيس أحمد الشرع وإدارته الجديدة سوى بداية لا نهاية. بداية فرصة لبناء دولة تعكس التنوع الاجتماعي الغني في سوريا التي صارت فقيرة اقتصادياً، لا مجرد نهاية للنفوذ الإيراني. بداية فرصة لصنع سوريا على صورة التحولات المتسارعة في المنطقة لا لصنع المنطقة على صورة سوريا الحالية، إذ لا شيء في مفاصل السلطة خارج أيدي “هيئة تحرير الشام”. ولا بد من ترجمة خطاب الشرع على أرض الواقع والذي يجب أن يتغير، وإلا فإن التغيير في سوريا يبقى شكلياً. فالإعلان الدستوري يحتاج إلى تعديل والمرحلة الانتقالية تحتاج إلى تقصير، وإذا كان بعض يطالب بعقد اجتماعي جديد فإن بعضاً آخر يحلم بكثير ويخاف على الحد الأدنى من التغيير في حال حدثت مفاجآت من النوع الذي كان مألوفاً في سوريا.
يقول جون برينان في مذكراته عن أيامه في إدارة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “لا أستطيع كشف كثير من سياسات أوباما في سوريا لأنها لا تزال سرية جداً”، وعلى رغم إيحاء الرئيس دونالد ترمب أنه يقول كل شيء عبر التلفزيون، فإن الدعم الأميركي للإدارة السورية الجديدة من دون أن تعكس التنوع في المجتمع لا يزال مملوءاً بشيء من الغموض والأسرار في إطار اللعبة بين تركيا وإسرائيل. وما عاد في الإمكان تأجيل الاختبار بعد غزوة السويداء وقبلها مجازر الساحل والتضييق على المسيحيين في دمشق وخلاف ما بعد اتفاق مارس (آذار) مع الكرد.
“يجب أن نملك القوة على النسيان لكي نستطيع أن نعيش” كما قال نيتشه.