لو أخبرني أحدهم قبل ستة أشهر، بأنني سأكون واقفة في شارع باب شرقي في دمشق مع بعض الأصدقاء، لأرى الكاتب والمترجم والناشر السوري فاروق مردم بك وهو يتمشى بصحبة ابنته، ولألقي عليه التحية ونتحادث قليلاً، ثم أطلب منه موعداً للقاء والحوار حين يسمح وقته. لو أخبرني أحدهم بكل هذا لحسبته دون شك، ضرباً من الجنون الذي يستحيل أن يتحقق. لكنه تحقق بالفعل. فقد سقط نظام بشار الأسد، وفتحت البلاد ذراعيها لاستقبال كل من غابوا عنها طيلة سنوات وعقود، نتيجة لمواقفهم المعارضة للحكم والأجهزة الأمنية.
مردم بك لم يتأخر عن تلبية هذا النداء، فوصل إلى دمشق للمرة الأولى بعد غياب خمسين عاماً، في شهر كانون الثاني/ يناير الفائت، أي بعد نحو شهر من السقوط، وها هو اليوم يعود في زيارته الثانية مع ابنته سليمى. زيارة يصفها بأنها «عائلية واستكشافية وفضولية تجاه هذا البلد الأمين».
كنت محظوظة بأنني في يومه الأخير في دمشق، تجوّلت معه قليلاً في عدد من شوارعها، ثم سهرنا برفقة بعض الأصدقاء، قبل أن يغادر سوريا عائداً إلى باريس حيث يقيم. وكانت فرصة فريدة لأمطره بوابل من الأسئلة الفضولية عن زيارته، ووجهة نظره تجاه بعض القضايا الملحة اليوم في سوريا، التي تشهد تغيّرات تاريخية بالفعل، وعن علاقته مع المدينة التي يحب، وأيضاً عن الطعام السوري، وهو الذي يصنّف نفسه بأنه «من عشّاق الأكل والمهتم بالأعمال الأدبية التي تتناول الطعام والمطبخ».
مردم بك، وهو من مواليد دمشق 1944، تخرج في كلية الحقوق، وشغل مناصب عدة منها مدير مكتبة معهد اللغات الشرقية، ومسؤول مكتبة معهد العالم العربي في باريس، ويشرف على سلسلة سندباد في دار نشر «أكت سود» التي تترجم الأدب العربي إلى الفرنسية، وله بحوث تاريخية وسياسية وأدبية وترجمات كثيرة إلى الفرنسية، وحصل عام 2018 على وسام الشرف من رتبة «فارس» من فرنسا لإسهاماته الفكرية والثقافية.
هموم كبيرة في مدينة صغيرة
من الأسئلة التي تشغلني اليوم سؤال يخص العمل السياسي المنظم في سوريا الجديدة، وكذلك ما يشبه القطيعة بين الشارع والنخب الاجتماعية والثقافية التي أفترض أن من واجبها ممارسة دور أكبر في الحياة السياسية والاهتمام أكثر بمشاغل الناس المعيشية. يقول فاروق مردم بك ضمن هذا السياق: «أرى أن واحدة من معضلاتنا اليوم هي أن الشباب يتخوّفون من العمل السياسي، بمعنى الانتظام في أحزاب، بحجة الابتعاد عن الأيديولوجيا. وهذا ليس خصوصية سورية أو عربية، بل نلاحظه في العالم أجمع. نحن اليوم في سوريا بعد سقوط الأسد بحاجةٍ ماسة إلى النضال السياسي السلمي، من أجل تأسيس معارضة بنّاءة لسياسات السلطة الجديدة على جميع المستويات، المحلية والإقليمية والدولية، وفي مختلف الميادين، الأمنية والاجتماعية والدينية، وليس من المستغرب أن تستغل هذه السلطة الفراغ السياسي للتصرّف على هواها».
يتابع بأن ما يلفته هو انشغال كثير من السوريين، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، بتفاصيل يومية يغيب عنها الجوهر: «كل يوم نسمع عن حوادث تتراوح في خطورتها بين القتل الوحشي الطائفي والاعتداءات هنا وهناك على الحريات الشخصية، ونقرأ تعليقات عنيفة أو ساخرة لا فائدة ترجى منها لأنها لا تطرح المشكلة الأساسية، أي الفراغ السياسي في وجه سلطة الأمر الواقع، التي تتمتع بصلاحيّات غير محدودة ولا تكف عن اتخاذ قرارات عشوائية. لدى السوريين بفضل الثورة حساسية سياسية عالية، يجب توظيفها بصورة إيجابية من أجل ردم الفجوة الواسعة بين الأجيال، وبين السوريين داخل سوريا وخارجها، وكثير منهم (أي المقيمين خارج سوريا) يتعاملون مع الوضع الجديد وكأن البلد ما زال خالياً من أي مساحة للعمل الجماعي والنقاش الحرّ، في حين أن الواقع مغاير تماماً والمواطنون يعبّرون عن آرائهم من غير مواربة، وهذا مكسب كبير فالحرية هشة بطبيعتها ولا تدوم إلّا بالإصرار على ممارستها».
فاروق مردم بك في باحة الجامع الأموي
نتحدث أيضاً عن غياب ما يمكن أن نسميه «وطنية سورية»، يقول مردم بك: «من المعروف أن ثلاثة أجيال من السوريين أو أكثر، ومنها جيلي، جيل الذين ولدوا في أواخر الحرب العالمية الثانية، كانت وطنيتها عربية قبل كل شيء، وكانت القومية العربية هي الأيديولوجيا السائدة. جيلكم أقل انتماء للوطن العربي بسبب ما ارتكب من جرائم باسم العروبة، ولأن العروبة في سوريا صارت تتماهي في نظركم مع الاستبداد، ومع اضطهاد القوميات غير العربية، خصوصاً الأكراد. المشكلة أن الوطنية السورية الجامعة لم تتبلور بعد. لم يصبح السوريون سوريين أولاً، وما زالت انتماءاتهم الإثنية والطائفية والجغرافية هي الطاغية. وكثيراً ما تتحدّد علاقات السوريين مع النظام القائم، أيّ نظام، وحتى مع بلادهم سوريا، حسب هذه الانتماءات. ما المانع في أن أكون معارضاً سياسيا للنظام الحالي، وأن أسعد في الوقت ذاته بنجاحه في رفع العقوبات عن سوريا، لأني سوري وأضع مصلحة بلادي فوق أي اعتبار آخر».
أسأله كيف يمكن أن نبني هذه الوطنية السورية اليوم، يقول: «هذا يتطلب مجابهة كل النزعات النافية لهذه الوطنية، أو التي لا تعتبرها فوق كل الانتماءات الأخرى، وبالأخص الطائفية. أنا شخصياً، وبصورة عفوية، أشعر بالإحباط عندما أسمع حديثا أو أقرأ مقالا عن (المكونات) وعن المحاصصة على أساس طائفي. لماذا علينا أن نهتم بالطائفة التي ينتمي إليها هذا الوزير، أو ذاك، عوضاً عن الاهتمام بكفاءته وأمانته، أتفهم طبعاً المخاوف المشروعة من التمييز الطائفي في الظروف الحالية، ولكنني حذر جداً من خطاب المحاصصة، وأعتقد أنّ من واجبنا كديمقراطيين الإصرار على مبدأ المواطنة، أي أننا جميعاً، من سوريين وسوريات، ومن عرب وغير عرب، مهما كان ديننا وكانت معتقداتنا الفكرية، مواطنون متساوون في وطننا السوري. ولا معنى للكلام عن حقوق الأقليات إذا كنا نؤمن حقاً بأن الدين لله والوطن للجميع».
ويؤكد مردم بك في هذا السياق أيضاً، أن مجابهة الفتن الطائفية «تقتضي النضال في أطر جماعية منظمة. لنؤسس مثلاً جمعيات مناهضة للطائفية على غرار الجمعيات المناهضة للعنصرية في أوروبا».
الشوارع ومحل الفول العظيم
واحدة من الأمور التي كنت أحاول مراقبتها كل الوقت، هي علاقة فاروق مردم بك مع المدينة ومختلف العناصر الثقافية والعمرانية فيها. ونحن نتجول في بعض الأحياء وسط دمشق، كان لا يكف عن وصفها كما يتذكّرها قبل عقود، قبل أن يغيّرها الانفجار الديمغرافي، وتشوهها سنوات من سوء التخطيط والإهمال ومن ثم الحرب. يتذكر مثلاً منطقة ساروجة قبل أن يقطّع شارع الثورة أوصالها، ومناطق المزة والربوة حين كانت مزروعة بالصبارة «على مد البصر» وكانت تُرى بكل وضوح من آخر خط المهاجرين، وخطوط مرور أفرع نهر بردى التي كانت مليئة بالمياه. في حين يشير إلى أن مناطق أخرى مثل المالكي وأبو رمانة، ما زالت محتفظة بطابعها تقريباً دون تغيير يذكر.
«وين أطيب طبق سوري أكلته بزيارتك للبلد؟»، أساله، فيجيب مبتسماً: «ما زال الطعام السوري محتفظاً بنكهته وجودته، وما لفتني من الزيارة الأولى دخول نوع من الثقافة الغذائية الدولية على المطبخ السوري، فتذوقت أصنافاً يقول عنها الطهاة بأنها سورية لكن مع إضافة يابانية أو هندية مثلاً. أما الطبق الألذ، فكان في شارع الفردوس عند محل «شعبي حمصاني». جلست على طاولة صغيرة تهتز، وطلبت صحن بليلة مع طحينة أكلته بمتعة، ثم طلبت الفول باللبن مع أرغفة الخبز الساخنة، وشربت الشاي. كان بالفعل طبقاً لن أنساه».
كاتبة وإعلامية سورية