لم تكن مشاهد الدم في شوارع السويداء، ولا أخبار الاشتباكات المروّعة بين قوات الأمن العام التابع للنظام السوري وفصائل محلية درزية، ثم التوتر العشائري مع مجموعات بدوية، مجرّد حوادث محلية أو انفجارات عارضة لحالة هشاشة أمنية؛ فما جرى يندرج في سياق أخطر وأعمق بكثير.
القصف الإسرائيلي، الذي استهدف مبنى هيئة الأركان وقصر الشعب في دمشق كان رسالة واضحة أنّ إسرائيل لم تعد تكتفي بلعب دور “المراقب القلق” أو الضارب الانتقائي، بل دخلت مرحلة جديدة: الهيمنة العسكرية والسياسية شبه المطلقة على المجال السوري، وربما في المنطقة. تتجاوز تصريحات بنيامين نتنياهو عن “منطقة خالية من السلاح” في جنوب سورية البعد العسكري التكتيكي، لتصل إلى جوهر المشروع الإسرائيلي الجديد: فرض قواعد اشتباك إقليمية جديدة، تُديرها تل أبيب.
الدلالة الأخرى في مشهد السويداء ليست غياب الدولة السورية فحسب، ولا حتى تفكّك السلطة المركزية أو عجزها عن ضبط الأمن، بل أيضاً الحضور الإسرائيلي الفجّ؛ العسكري والسياسي، والقبول الضمني من القوى الدولية به. لا البيت الأبيض أصدر بيانَ إدانةٍ، ولا الأمم المتحدة رفعت صوتها، ولا حتّى أوروبا أبدت قلقاً دبلوماسياً خجولاً. الصمت الدولي حيال القصف الإسرائيلي العنيف لقلب دمشق، وتحديداً لمواقع سيادية، لا يمكن تفسيره إلّا بوصفه رضى ضمنياً، إن لم يكن موافقة صريحة، على النموذج الإسرائيلي الجديد.
يقوم ذلك النموذج، كما تشير أحداث السويداء، على معادلتَين مترابطتَين: أن إسرائيل صاحبة القرار النهائي في ملفات الإقليم الأمنية، من غزّة إلى جنوب لبنان، ومن السويداء إلى أربيل، وهي التي تمنح أو تحجب الموافقة على أي حل سياسي أو ميداني. وأنّ على الجوار العربي أن يتحوّل إلى فسيفساء من الكيانات الضعيفة، المتنازعة، والمجزّأة طائفياً وعرقياً، في مقابل “الدولة اليهودية النقية” التي تطمح إليها حكومة اليمين الإسرائيلي.
ليست السويداء، في هذا الإطار، سوى “المختبر الأولي” لهذه الاستراتيجية، يريد نتنياهو تحويل الدروز إلى ورقة، على غرار ما يُراد للأكراد في الشمال والعلويين في الساحل. تفتيت الدولة السورية، كما كان الحال في العراق ولبنان، ليس مجرد نتيجة للضعف والفوضى، بل هدف إسرائيلي في حدّ ذاته، يوفر أرضية أخلاقية وسياسية لإسرائيل لتكريس نموذجها القومي – الديني، وربما تمهيداً لتهجير الفلسطينيين في أراضي 48 والضفة الغربية، تحت شعار “لكل جماعة دولتها”
في ورشة مغلقة نظمها معهد السياسة والمجتمع قبل أيام، خلص خبراء أمنيون وسياسيون أردنيون إلى أن ما جرى في السويداء لا يمكن عزله عن سياق أوسع يشمل الحرب على غزّة، ومعركة الضفة الغربية، واستهداف حزب الله في لبنان، وضربات متفرّقة في العراق. ويؤشر ذلك كله إلى محاولة إعادة تشكيل خريطة النفوذ في المشرق العربي، وفقاً لرؤية إسرائيلية تقوم على مبدأ “إضعاف الجميع، وتسيّد واحد”.
في السياق الاستراتيجي، أيضاً، العرب خارج هذا المشهد، في السويداء وفي غزّة وفي لبنان، وكما كانت عليه الحال في الحرب الإيرانية الإسرائيلية. لم يعودوا طرفاً في موازين القوى، بل موضوعاً لها، وما أشبه ذلك بحالهم غداة الحرب العالمية الأولى. حتّى تركيا، تراجعت وتحجّم طموحها، وربما يكون مشروع اليمين الإسرائيلي في المدى المتوسط “تحييد تركيا” أو إضعافها أيضاً، إن لم يكن عبر مواجهة مباشرة، فبوسائل ناعمة ومن الداخل.
على جهةٍ أخرى، مهما قيل عن الخلافات التكتيكية بين نتنياهو وإدارات بايدن أو ترامب، لم تتغيّر الاستراتيجية. هنالك قبول أميركي عميق بتكريس إسرائيل قوةً إقليميةً ضابطة، ولا فيتو بعد على المشروع الإسرائيلي الجديد. الأحداث في السويداء، على الرغم من قسوتها، لم تغيّر شيئاً من هذا التواطؤ الصامت.
نعم، ربما تنتهي الأزمة في السويداء بوساطة أميركية – تركية – أردنية، كما قال المبعوث الأميركي توماس برّاك، لكن النموذج الجديد الذي بدأ يتكرّس: إسرائيل بوصفها شرطياً (أو بلطجياً) في المنطقة لا أحد يقف في وجهها، وعدم السماح بأيّ قوى إقليمية جديدة، وإذا أردت أن تحل مشكلة أو مسألة داخلية في لبنان أو سورية أو ربما أماكن أخرى فإنّ “تل أبيب” الجديدة على الطاولة وهي طرف وربما الطرف الأهم في تقرير مصير ليس الفلسطينيين فحسب بل الجوار بأكمله!