في خطوةٍ وُصفت بالمفصلية، أعلنَ حزبُ العمال الكردستاني (PKK) يوم 6 يوليو (تموز) 2025، عبر بيانه الصادر عن جناحه الإعلامي، اعتزامه حلّ تنظيمه المسلح وحرق الأسلحة التي بحوزته، فيما بدا قراراً غير مسبوق من تنظيم وُلِد في الجبال وعاش على إيقاع الصراع المسلح منذ تأسيسه عام 1978، وقد أثار هذا الإعلان جدلاً واسعاً حول أسبابه الحقيقية، بين من يراه اعترافاً بنهاية تجربة أنهكت قواعده وبيئته، ومن يراه تحولاً آيديولوجياً نحو مشروع سياسي مدني، أو حتى تكتيكاً ظرفياً أملته الضربات التركية الأخيرة التي طالت معاقل الحزب في قنديل وسنجار ومخمور.
لم يكن القرار مفاجئاً بالكامل، فقد سبق لزعيم الحزب عبد الله أوجلان، المعتقل في جزيرة إيمرالي منذ 1999، أن دعا منذ سنوات إلى التَّخلي عن السلاح واعتماد النضال الديمقراطي، غير أنَّ الجناح العسكري ظل يراوغ في التنفيذ، متمترساً خلف ذرائع «الاحتلال» التركي أو «الانحرافات القومية» في إقليم كردستان العراق، لكن الضربات الجوية المكثفة التي تلقتها قواعد الحزب في الشهور الأخيرة، ونجاح تركيا في تقليص العمق اللوجيستي للتنظيم، يبدو أنها دفعت القيادة الفعلية إلى مراجعة خياراتها، خصوصاً مع التململ الشعبي في بعض الأوساط الكردية من استمرار الحرب في مناطقهم.
مع ذلك، لم يكن الموقف موحداً داخل المنظومة المرتبطة بالحزب، فبينما رحّبت بعض الشخصيات في أوروبا التابعة لـ«مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردستاني» (KCDK-E) بالقرار، وعدّته «خطوة تاريخية نحو الاعتراف الدولي»، التزمت واجهات أخرى الصمت، خصوصاً في سوريا، حيث يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على مناطق واسعة في شمال شرقي البلاد بدعم أميركي، ويتعاون تكتيكياً في بعض الملفات مع كلّ من إيران وروسيا، وقد تكون هذه المناطق – التي تتقاطع فيها المصالح الدولية – غير جاهزة بعد لتكرار تجربة حل التنظيم. أما في سنجار، حيث يتعاون جناح من الحزب مع ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقي، فقد عُدّ القرار مناورة سياسية لتخفيف الضغط التركي والدولي، دون أن تتبعه خطوات عملية على الأرض. وبالمثل، تلوذ وحدات مقاومة سنجار (YBŞ) بالصمت، رغم أن علاقتها بقيادة قنديل كانت عضوية في السنوات الماضية.
وفي إقليم كردستان العراق، ورغم الخلافات العميقة بين قيادة الإقليم وحزب العمال، فقد أبدت حكومة الإقليم ترحيباً مشروطاً بالقرار، خاصة إذا ترافقت «نية حل التنظيم» بخطوات فعلية على الأرض، أهمها: الانسحاب من المناطق الحدودية، إنهاء الوجود العسكري في سنجار ومخمور، وقف التدخل في الشأن السياسي الداخلي للإقليم. ويرى مراقبون في أربيل أن الإقليم يسعى لاستثمار هذا التحول لتثبيت الاستقرار الأمني في مناطقه الحدودية وجذب الاستثمارات، خصوصاً مع تزايد الحديث عن مشاريع ربط اقتصادي بين تركيا والخليج عبر الأراضي الكردية.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل يمثل هذا القرار تحولاً فكرياً فعلياً أو مجرد تكتيك ظرفي؟ البعض يشكك، عادّاً أن حزب العمال يجيد «إعادة تشكيل نفسه» كلما اشتد الخناق، فمن الحزب الشيوعي الكلاسيكي في الثمانينات، إلى اليسار التحرري المتأثر بكتابات الأميركي موراي بوكتشين، ثم إلى تبني «الكونفدرالية الديمقراطية» كنموذج غير دولتي، لطالما استخدم الحزب أدوات فكرية لتبرير تحركاته، من دون أن يلتزم تماماً بالتحول من العمل المسلح إلى المدني، ومع ذلك، فإنَّ الاعتراف الضمني بـ«نهاية العمل المسلح» قد يكون مؤشراً لتيار داخل الحزب بات مقتنعاً بأنَّ مكاسبَ الحرب وصلت إلى حدودها، وأنَّ المرحلة المقبلة تتطلَّب أدوات سياسية وإدارية جديدة، خاصة في ظلّ نفاد الصبر الدولي من الحركات المسلحة، وتصنيف الحزب منظمة إرهابية في كل من تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في التحليل الأخير، يمكن النظر إلى القرار بوصفه استجابة لتوازنات جديدة في المنطقة، وضغوط عسكرية وسياسية لم يعد الحزب قادراً على تجاوزها. كما يمكن فهمه بوصفه مدخلاً لتحسين صورته دولياً، وفتح قنوات تفاوض جديدة، وربَّما تقنين وجوده في مناطق نفوذه عبر واجهات مدنية أو محلية أكثر قبولاً. لكن ما لم يترافق ذلك مع خطوات ملموسة على الأرض، فسيظلُّ القرار أقرب إلى إعادة تموضع تكتيكية منه إلى تحول آيديولوجي حقيقي، وسيبقى الباب مفتوحاً أمام عودة الحزب إلى الجبل متى ما تغيّر المزاج الإقليمي والدولي.