عندما هدد المبعوث الأميركي طوم براك لبنان بإعادة ضمّه الى سوريا، لم تكن معركة السويداء قد بدأت، ولم تكن العصبيات الطائفية قد انفجرت في جميع انحاء بلاد الشام على هذا النحو المريع، ما يضع “إنحيازاته” وخياراته التركية (والسورية) الحاسمة، موضع الشك، ويحرر اللبنانيين الى حد ما، من همّ الاندراج في تلك التجربة الدموية الماثلة الآن في أذهان الشوام..ولا يمكن تخطيها حتى بالعودة الى النصوص والخرائط الاصلية لمعاهدة سايكس بيكو الخيالية.
المبعوث الأميركي العائد الى بيروت خلال ساعات، لن يحمل معه هذه المرة، ملامح نموذج سوري واعد، وبوادر خيار تركي مطمئن، يعرضها على اللبنانيين. معركة السويداء، وحصيلتها الدرزية المؤلمة، كانت فاضحة لذلك المسعى الأميركي الطموح، الذي يرسم خرائط وهمية، توحيدية، على رمال سوريا المتحركة، بسرعة فائقة، لم يسبق لها مثيل منذ أكثر من مئة عام..ويحرك حنين الشوام، بل أهل المشرق العربي كله، الى أيام الدبلوماسيين والخبراء البريطانيين والفرنسيين، العقلاء والحكماء والواقعيين، أكثر من الاميركيين طبعا، وأكثر من سكان تلك المنطقة التي قسمها الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، بخط حدودي واحد.. كان (ولا يزال) حلماً عزيزاً، لولا وعد بلفور المشؤوم.
في تغريدته الأخيرة، يوحي براك بنوع من التشكيك، أو على الأقل التحفظ ، على التفويض الأميركي المطلق الذي مُنح للرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، بطلب ملحٍ من الاتراك يومها. ويتحدث عن رفع العقوبات على سوريا بصفته “خطوة مبدئية”، وعن التفاؤل الدولي الحذر بالجهود الانتقالية السورية المستندة الى “طموح هش”، ليصل الى دعوة جميع الفصائل المتناحرة، التي تقوض جهود الحكومة السورية، الى القاء السلاح فوراً..ولم يكن مفاجئا طبعاً أن يغفل خطورة الخرق الإسرائيلي الفظ لذلك التفويض، وتلك الجهود بالذات.
لم يصل براك الى حد انتقاد أداء الشرع وحكومته وأجهزته، ولم يلمح الى الحاجة لتعديل لذلك المسار، الذي تولى وزير خارجية تركيا هاكان فيدان نفسه مراجعته بالاشراف المباشر على وقف النار في السويداء وعلى مهلة ال48 ساعة للانسحابات البدوية والحكومية من محيطها. كلام فيدان، الأول من نوعه، عن سوريا الى “خريطة طريق جديدة، ستكون نموذجاً في التاريخ”، لا تدع مجالا للشك في هوية المنتصر والمهزوم من معركة جبل العرب، وفي حجم الاختراق الذي حققته إسرائيل في دمشق، والذي يمكن ان يمنع احتواء “الجناح الإسرائيلي” في الوسط الدرزي، وإعادته الى جادة العقل.
صعوبة مهمة براك الجديدة في بيروت لا تكمن في انه لا يملك حجة لاقناع أي مسؤولي لبناني، بحنكته وتجربته بل وتكليفه ايضاً، بعد الفشل الاخير في سوريا الذي يمكن ان يعزي اليه أكثر مما ينسب الى الاتراك الذين أساؤوا إدارة الشرع وحكومته. ولن يكون بمقدور المبعوث الأميركي ان يعرض خدماته حتى في تنظيم العلاقات السورية اللبنانية وتطبيعها، وترسيم الحدود بين البلدين. أما سلاح حزب الله، الذي لم يعد ذو شأن، ولا أثر، فإن النقاش حول نزعه يمكن ان يتحول مستقبلا الى جدل فكري، أكاديمي، يتصل بخريطة الطريق الجديدة التي يفترض ان ترسم لسوريا.
“تقف سوريا عند مفترق طرق خطر”، العبارة هي، حرفيا، للمبعوث الأميركي نفسه. وأقصى ما يتمناه لبنان، أن يظل بمنأى هذا المفترق، وأن يبقى بعيداً عن ذاك الطريق السوري المحفوف بكل ما يتمنى اللبنانيون نسيانه، ويرغبون فعلا بالتفرغ لتدبير شؤونهم الداخلية، المتواضعة، وما تحتاجه من “آليات” لإقناع حزب الله بان سلاحه الباقي يصدأ ويتطلب إعادة تدوير، ولإقناع بقية اللبنانيين بأن معركة السويداء شأن داخلي سوري..وبأن طوم براك، لن يكون في بيروت واعظاً ولا مبشراً ولا محايداً، يتخلى عن هواه التركي-السوري الظاهر.
بيروت في 20 / 7 /2025