لطالما شكّلت مقولة “التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي” التبرير “النظري” للأنظمة العربيّة ولتنظيمات المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، لإعطاء الأولويّة للصراع مع الخارج ولإخضاع مشكلات الداخل لمستلزمات هذا الصراع، باعتبارها مسائل ثانويّة. وقد تحوّلت هذه المقولة الى مسلّمة في أدبيات يساريّة وقوميّة وإسلامويّة، على حد سواء.
انها من المقولات ال “Passe-partout” إذا صحّ التعبير، التي استطاعت ان تعبر من الماركسيّة الى الماويّة ومن الماويّة الى حركات التحرّر في العالم الثالث، ومن العالم الثالث الى الأنظمة العسكرية العربية ذات العقيدة القوميّة، ومن الأنظمة العسكريّة الى حركات الإسلام السياسي.
مرونة المقولة لا تدلّ على صحّتها بقدر ما تشير الى مطواعيتها في خدمة السلطة القائمة لأي عقيدة انتمت، وذلك بهدف الإبقاء على الأمر الواقع في الداخل، بحجة التفرّغ للخطر الخارجي.
فلنتفحّص هذه المقولة عن قرب.
التعابير مستقاة من الماركسية: “التناقض” في الفكر الماركسي هو جوهر الحركة والتطوّر في الطبيعة والمجتمع ويشير الى قوى متصارعة داخل كل شيء. التناقضات الطبقية هي المحرِّك للتاريخ وتؤدّي في النهاية الى التغيير الاجتماعي في حقبة معينة. بالنسبة لماركس التناقض الرئيسي في المجتمع هو التناقض الطبقي فيما التناقضات الأخرى هي ثانوية.
يقول ماو تسي تونغ في كتابه “حول التناقض”: “العلّة الأساسيّة في تطوّر الشيء إنما تكمن في باطنه لا في خارجه، في تناقضه الباطني… اما الصلة القائمة والتأثير المتبادل بين شيء وآخر فهي علّة ثانوية… والواقع انه حتى الحركة الميكانيكيّة المسبّبة عن القوى الخارجيّة تتحقّق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم في باطن الأشياء”. أفهم من ماو تسي تونغ انه حتى لو كان هناك تناقض مع الخارج بالنسبة لمجتمع ما، فإن حركة هذا التناقض تتحقّق “بواسطة” التناقض الداخلي، الذي يبقى في هذه الحالة رئيسيًّا، فيما يحافظ التناقض مع الخارج على صفة الثانوي. ويؤكّد ماو ان “التناقض الرئيسي هو التناقض الذي يكون حلّه حاسمًا في حل التناقضات الثانويّة”. بمعنى آخر إذا أردت حل التناقض مع الخارج عليك حل التناقض الداخلي الرئيسي اولاً.
بحسب مهدي عامل، المفكر الماركسي اللبناني “إن السيطرة الاستعمارية الحقيقية، أي تبعية البلدان للاستعمار، متمثلة في الإطار الاجتماعي نفسه للإنتاج الكولونيالي، أي في العلاقات الطبقية الخاصة بالبنية الاجتماعية الكولونيالية، وليست في الوجود المباشر للاستعمار في هذه البلدان، كوجود عسكري أو اقتصادي، وإن كان هذا الوجود المباشر فعليا». هنا أيضًا، يمر الصراع مع الاستعمار من خلال الصراع القائم في البنية الإجتماعيّة المحليّة وليس بمعزل عنها.
ماركسيون، وقوميون عرب وإسلاميون على مختلف اتّجاهاتهم، تبنّوا مقولة “التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي” واستخدموها لأغراضهم الخاصة، معتبرين ان التناقض الرئيسي هو العلاقة مع الخارج.
أحد الماركسيين المنتقدين للمقولة اعتبر ان استخدام هذه المقولة من قبل “شيوعيين ستالينيين عرب”، “هو تجريد للماركسيّة من محتواها الإنساني. انها خدعة تسمح لهؤلاء بمصافحة دكتاتور ملطّخة يداه بدماء الشيوعيين والتقدميين، أو بتقبيل أقدام شيخ ظلامي هو النقيض لكل ما يؤمنون به ويدعون اليه، كل ذلك بحجة ضرورة مواجهة الخطر الخارجي الذي يعتبرونه “التناقض الرئيسي”… هذه الخدعة تساعد هؤلاء في تبرير الانتهاكات الأخلاقيّة والمبدئيّة لأصحابها.”
القوميون والإسلاميون لا يحتاجون الى جهد نظري لاعتبار الصراع مع الخارج التناقض الرئيسي، فالتناقض الداخلي جرى إلغاءُه في العقيدتين: الداخل هو القومية العربية الواحدة أو الأمة الإسلاميّة الواحدة والتناقض هو فقط مع الخارج أي مع قوميات وأديان أخرى. في الداخل لا يوجد تناقض، اما المختلف دينيًّا او قوميًّا والموجود في الداخل، فيجري التعامل معه وكأنه “خارج”، أي في إطار التناقض الرئيسي.
انزلاق مقولة التناقض من خلفيتها الماركسيّة الى راهنتيها القوميّة أو الإسلاميّة حوّلها في الواقع من أساسها المادي الجدلي المرتبط بالتناقضات والصراعات القائمة على مصالح الجماعات والطبقات الاجتماعيّة التي يتألف منها المجتمع، الى أساس “قومي-ديني” مرتبط بمفاهيم مثاليّة عن الجماعة القومية او الدينية وعن مصالحها العليا غير القابلة للتغيير من خلال عمليّة جدليّة ملازمة لقانون التناقضات.
يمكن لمقولة “التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي” ان تكون إحدى الأمثلة الصارخة للتداخل العشوائي في الوعي العربي، بين الفكر الماركسي والفكر القومي والفكر الديني. لكن مصيبة هذه المقولة بما رست عليه، ليس فقط في هشاشتها النظرية، بل في نتائجها العملية الكارثيّة.
إذا حصرنا النقاش في الحروب الثلاث الأخيرة مع إسرائيل أي في اطار التعامل مع ما هو مُعتبر تناقضاً رئيسياً، في كل من غزة ولبنان وسوريا، يتبيّن لنا بسهولة التأثير السلبي القاتل للتناقض الثانوي الداخلي على الصراع مع إسرائيل:
– التناقض والصراع بين السلطة الفلسطينية وحماس.
– التناقض والصراع بين حزب الله ومعظم الشعب اللبناني، الذي اتّخذ شكل صراع بين “دويلة” ودولة.
– التناقض والصراع بين السلطة السوريّة الجديدة والمكوّنات الإجتماعيّة الاثنيّة والدينيّة والمذهبيّة.
الأمثلة الثلاثة تشير بوضوح الى خطورة اعتبار المشكلات الداخليّة كـــ”تناقض ثانوي” يمكن تأجيل معالجته الى ما بعد حل التناقض الرئيسي الخارجي. مع التنبّه الى ان هذه المشكلات الداخليّة ليست محصورة بتناقضات طبقيّة كما تعتقد الماركسيّة، بل تشمل أيضًا تناقضات من طبيعة مجتمعيّة أخرى، أثنيّة ودينيّة وطائفيّة ومذهبيّة، على المستويات السياسية والإقتصادية والثقافية.
المسألة التي تحتاج الى تمحيص أعمق هو التناقض بين التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، الذي لا يسمح لنا بأن نسلّم بأن حل التناقض الرئيسي يساعد حتمياً على حل التناقض الثانوي، أيًا كان موقع كل من التناقضين، في الداخل أو في الخارج. فالجدلية، اذا سلّمنا بالمقاربة الماركسية لفهم الحراك التاريخي، لا تقتصر على الحراك داخل كل تناقض على حدا، بل أيضاً بين التناقضات فيما بينها. وهذا ما لم يأخذه في الاعتبار ماركسيون كثر في فهمهم لمقولة “التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي.”
التناقض بين التناقضين قد يفضي مثلاً كما في الحالات الفلسطينية والسورية واللبنانية اليوم، الى تعطّل مسار التناقضين، فلا قدرة على مواجهة اسرائيل ولا على معالجة التصدعات الداخلية. كذلك عندما يكون التناقض الرئيسي هو مع الخارج، ينعكس ذلك على تعطيل التناقض الداخلي. ذلك ان من شروط التعامل مع الخارج كتناقض رئيسي، هو نفوذ أكبر للسلطة وللسلاح ولكم الأفواه، تطبيقاً لشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. في حين ان معالجة التناقض الداخلي تكون عبر فتح الباب أمام حرية التعبير والصراع السياسي الداخلي في إطار نظام ديموقراطي، تكون فيه حصرية السلاح بيد الدولة.