سورية غير مستقرة لأنها غير قابلة للاستقرار في صورتها الحالية. وهي غير قابلة للاستقرار لأنها تحاول السير على قدم واحدة، أهلية أمنية، في مجتمع متعدد على مستويات متعددة. وعملياً يعني ذلك وقوفاً مرهقاً وغير متوازن في الموقع نفسه، وفي النهاية الوقوع أرضاً. السابقة الأسدية مضيئة في هذا الشأن. فطوال عقود جرَّبَ النظام السير على قدم واحدة، قدم أهلية أمنية كذلك، وهو ما أدى إلى تحجر سورية وتأخرها في جميع المجالات، عن محيطها نفسه وليس عن عوالم متقدمة. وفي النهاية أفضى إلى السقوط.
هناك فوارق مهمة مع ذلك. لم يبدأ الحكم الأسدي بقدم واحدة، عسكرية أمنية، بل حاول اصطناع قدم أخرى سياسية، تمثلت في «الجبهة الوطنية التقدمية»، وهي تَجمُّع أحزاب «تقدمية» ممنوعة من النشاط في الجيش وبين الطلاب، وتحوز كلها من التمثيل ثلث أصوات المجموع، بينما لا يلزم غير ثلثي الأصوات لتمرير قرارات الجبهة، وهذان الثلثان مضمونان دوماً لحزب البعث، «القائد للدولة والمجتمع» بحسب دستور 1973 الذي صدر بعد تأسيس الجبهة عام 1972. كان ظاهراً أن هذه القدم لا تعمل، ولا حتى كعكاز، ومنذ أواسط السبعينيات، أخذ يتضح أن النظام مُتشكِّل كلياً حول أمنه الخاص. الجبهة صارت خردة سياسة بعد سنوات قليلة من تشكيلها.
اليوم، ليست هناك حتى محاولة لاصطناع قدم أخرى، تساعد البلد على التوازن، دع عنك السير إلى الأمام. هناك تطييفٌ سُنّي للقوى الأمنية والتشكيلات العسكرية، تُحاكي اعتماد الحكم الأسدي في أجهزته الأمنية وتشكيلاته العسكرية ذات الوظيفة الأمنية على موثوقيه الأهليين، المنحدرين من الجماعة العلوية. بل إن الحكم الأسدي عمل على توسيع قاعدة استناده حتى على هذا الصعيد الأمني، وبقدر معقول من الفاعلية. اليوم، يبدو أن الفكرة الضمنية قليلاً والصريحة كثيراً وراء التطييف الجديد تتمثل في أن السُنّيين السوريين أكثرية ديمغرافية، وأنهم ليسوا طائفة، هذا حين لا يقال إنهم «الأمة». لكن هذا باطلٌ من وجهة نظر الدولة الوطنية التي تقوم سورية عليها من حيث المبدأ: كيان سياسي بأرض لها حدود معلومة ومُعترَف بها دولياً، وشعب هو مجموع سكانها، ودولة هي مُركّب مؤسسات حكم، ذات ولاية عامة لأنها قائمة على تمثيل عام. فالأمة الوحيدة في الدولة الوطنية هي أمة المواطنين، ولا ولاية عامة لهذه الدولة دون تمثيل عام.
لقد احتجنا إلى الثورة السورية وظاهرة الانشقاقات عن جيش النظام الأسدي وأجهزة حكمه كي نُميّز بين دولة ظاهرة بلا سلطة ودولة باطنة هي مقر السلطة الحقيقي. الدولة الظاهرة، الحكومة والإدارة ومجلس الشعب والقضاء والتعليم، عامة التمثيل وإن قامت على محاصصة ضمنية، بينما الدولة الباطنة طائفية بقدر كبير. اليوم لدينا منذ الآن دولة ظاهرة لها حكومة تمثيلية بصورة ما (أدنى تمثيلاً مما في الحقبة الأسدية)، وقريباً مجلس شعب (معين عملياً) وإدارات (متعثرة)…، ثم دولة باطنة طائفية بصفاء أكبر. ومثلما في الحقبة الأسدية يبدو أن هناك خطاباً وطنياً ظاهراً، وخطاباً باطناً فئوياً ودينياً؛ وإذا طال العهد بهذه التركيبة، فربما نرى ارتساماً أوضح لمعارضة ظاهرة تعارض الدولة الظاهرة المسكينة (تعارض الوزيرة هند قبوات مثلاً) ومعارضة باطنة تعارض الدولة الباطنة، الأمنية الطائفية؛ ثم ربما تتمايز سجونٌ ظاهرة عن سجون باطنة، يجري في الأخيرة التعذيب والقتل مثل سجن تدمر في أيام الأسد الأب وصيدنايا في أيام وريثه.
الدولة الوطنية، والوطنية السورية، في محنة على مستويات متعددة. أولها وأخطرها هذا التطييف الواسع، العُصبوي والمتعصّب والعُصابي، الذي يجمع بين الاستناد إلى مثالِ الحكم الإسلامي وبين تسويغ نفسه انفعالياً بمظلومية سُنّية، مُعزَّزَين معاً بسردية تفوّق سُنّية تجمع هي نفسها بين «دين الله» و«فتح العالم»، أو بين اللاهوت الواحدي والمخيلة والذاكرة الامبراطوريتين. لكن ليس فقط لا يتوحد السوريون حول تصور إسلامي للحكم، بل السُنّيون أنفسهم لا يتوحدون على هذه الأرضية. السُنّيون السوريون ليسوا طائفة بالفعل، لكن ليس لأنهم «الأمة»، بل لتعدد بيئاتهم وعدم اجتماعها في أي وقت سابق على سياسة أو توجه بعينه (تنظر مقالتي في الجمهورية: السنيون السوريون والسياسة، 2013). بين المدينيين والريفيين، بين الشوام والحلبية والحماصنة والحموية مقابل الشوايا والحوارنة وغيرهم، بين الفلاحين والبدو، ثم بين الصوفيين والإخوان والسلفيين والسلفيين الجهاديين، تباينات متعددة، لا تتشكل منها حتى طائفة. وهذا رغم وجود فواعل تطييف تمثلت في الإسلاميين، الإخوان في وقت سبق، والسلفيين الجهاديين بعد الثورة السورية، ورغم سردية المظلومية.
وحتى لو سلَّمنا بأننا حيال جماعة أهلية أكبر من غيرها، فهذا لا يُغيّر من حقيقة أن السير على قدم واحدة، ولو أكبر مقاساً، غير ممكن. علماً أن التباينات المشار إليها للتو تُشكِّكُ في أي دلالة سياسية يمكن نسبتها إلى كون السنيين الجماعة الأهلية الأكبر. كان الحكم الأسدي قد كبّرَ مقاسَ قدمه، وبفاعلية، بضم منحدرين من جماعات أهلية سورية أخرى، لكنها ظلت قدماً واحدة.
الدولة الوطنية هي وحدة النظام الدولي المعاصر، وسورية قامت منذ نشأتها على هذا الأساس. في أوساط الإسلاميين، بمن فيهم الإخوان في هذا الشأن، تُقام مفاضلة بين الشريك الوطني والأخ الديني، قد تأخذ الشكل التالي: هل المسلم الصيني أقرب إليك أم المسيحي السوري؟ والإجابة الصحيحة هي المسلم الصيني. وهذا مَسلكٌ متنطعٌ وعدواني، يمنع تَشكُّلَ وطن ودولة وطنية والتزامات حقوقية وأخلاقية بين المواطنين. والواقع أنه قبل قليل، وإلى اليوم عند البعض، كان مَفخرةً وموقفاً مبدئياً لدى المنحدرين من تراث السلفية الجهادية، والإسلام السياسي بعمومه، رَفضُ الدولة الوطنية وأمة المواطنين، لمصلحة الدولة الإسلامية والأمة الدينية. لكن هذه لا تقوم اليوم دون تهجير وتطهير عرقي وإبادات كبيرة، لا يبدو أنها بعيدة عن مُخيلة بعض قوى الحكم الجديد.
والوجه الثاني لمحنة الدولة والوطنية السورية اليوم هو ما يبدو من ترتيب علاقات إقليمية ودولية للحكم الحالي، مَدارُها هو ضمان الاستقرار، ممّا كان دوماً أولوية القوى الغربية والعربية في سورية والشرق الأوسط، بما في ذلك طوال عقود الحقبة الأسدية. الاستقرار وليس الحقوق ولا الحريات ولا المساواة ولا الديمقراطية. ليس هناك خطأٌ في كسب أصدقاء في الإقليم والعالم وتحييد أعداء بقدر الإمكان، لكن فقط بقدر ما تستند هذه السياسة إلى توسيع دائرة الشركاء في الداخل وتحييد الخصوم وتضييق دائرة الأعداء إلى أقصى حد، أي بقدر ما يجري استبعاد الحرب من الداخل الوطني. ما جرى هو العكس. الحكم الجديد وسَّعَ دائرة الأعداء بسرعة قياسية ودخل في مواجهات عنيفة، ولم يكسب أي أصدقاء جُدد في الداخل. بتضييق قاعدة الحكم الداخلية والاكتفاء بتوسع دائرة الأصدقاء الخارجين (بما في ذلك فيما يبدو الاعتقادُ بصداقةِ الأميركيين)، جرى توجيه رأس السياسة وعنقها في سورية نحو الخارج مثلما في الحقبة الأسدية، وليس نحو داخل سورية وتكوينها المتعدد ومشكلاته الكثيرة، ومن باب أولى نحو رفاهه وتنمية الثقة بين جماعاته. وتتوافق أولوية الاستقرار مع تَحوُّل الدولة في الداخل إلى دولة أمنية، لا دولة حقوق، ولا دولة تنمية وخدمات. والدولة الأمنية، مثل الدولة الطائفية، ضدّ الدولة الوطنية. ويتعذر على أي حال في بلد مثل سورية أن تصير الدولة أمنية، متمركزة حول الأمن والاستقرار، دون الارتكاز على جماعة أهلية، موثوقة أكثر من غيرها، أي دون تطييف.
وما لا يبدو أن الحكم الجديد يدركه هو أن القوى الخارجية تريد محاربة داعش والجهاديين الأجانب (ضبطُ هؤلاء الأخيرين على الأقل)، وليس العلويين أو الدروز الذين لا يمثلون خطراً على تلك الدول (ولا على حُكم سوري تعددي واستيعابي).
والوجه الثالث لمحنة الدولة والوطنية السورية يتصل بالاقتصاد والموارد الوطنية، ويُحيل إلى الاستقلال والتبعية الاقتصاديين. لم يعد أحد يدافع عن التصور الاكتفائي أو الأوتاركي للاقتصادات الوطنية، أو «قطع الروابط مع السوق الرأسمالية العالمية» مثلما كان يدعو سمير أمين ومنظرو مدرسة التبعية. لكن يتعين أن تذهب الأولوية إلى رجحان وزن التفاعلات الاقتصادية الداخلية على الخارجية، والرساميل الداخلية، العامة والخاصة، على الرساميل الخارجية، واحتكار الدولة للموارد الاستراتيجية الأساسية. المعيارُ هو انكشافٌ اقتصاديٌ أقل، أي تَراجُعُ نسبة التبادلات التجارية مع الخارج إلى الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي استقرار اقتصادي أوسعُ قاعدةً وأوفى بحاجات السوريين. المنظورات الليبرالية الجديدة للفريق المسيطر الحالي تنذر بسيطرة أجنبية واسعة على الاقتصاد السوري ونزع وطنيته، وبالتالي نزع وطنية البرجوازية السورية المحتملة النشوء. في هذا لا تَعِدُ لَبرلة الاقتصاد بشيء أحسن من دَولَنته في الحقبة الأسدية: هيكل طبقي مشوه، برجوازيته وسيطة أو كومبرادورية، وطبقاته الأدنى منقسمة طائفياً وإثنياً.
أكثر من ذلك، لا يبدو أن محاربة الفقر الذي يشمل 90% من السوريين أولوية اقتصادية عند السلطات، وهو ما يُخرِجُ أكثرية السوريين من الحياة الوطنية التي يخرجهم منها كذلك تطييف الدولة واندماجُها من رأسها في البنى الإقليمية والدولية، وإطلاق يدها المُرجَّح في الداخل.
بدولة مُطيَّفة، واقتصاد تابع يتحكم به الرأسمال الأجنبي، وبروابط إقليمية ودولية مَدارُها الاستقرار، الوطنية السورية والدولة الوطنية في سورية في محنة، يُرجَّح أن تحكم على الاستقرار العزيز بأن يكون عزيزَ المنال.
مَسالِكُ الحكم اليوم ليست مسالك بناء الدولة العامة، ولا يبدو أن هناك مشروع دولة يجري السير نحوه. ما يجري هو مشروع شوكة وغلبة، قاعدته الصلبة ضيقة، سياسته طائفية، غير قادر على عقلنة نفسه كي يعقلن الحياة العامة في البلد. لا تستطيع «الدولة» أن توحد البلد بينما هي تُغرِّبُ بعدوانية قطاعات متسعة من الشعب، وليس من حقها أن تطالب أحداً بأن يكون وطنياً إن لم تكن هي دولة وطنية.
وظاهرٌ أن قوات «الدولة» لم تتصرف كجيش وطني في السويداء مؤخراً، كما لم تتصرف كجيش وطني في الساحل في آذار (مارس) الماضي. تصرَّفت بالأحرى كقوات أجنبية تحتل أرضاً معادية وتتعامل مع سكان معادين. وواضح أن تلك القوات لم تتلقَ تعليمات بالانضباط، والتعامل المهني والإنساني مع المدنيين، وأنها كررت في السويداء سيرتها المشينة ضد العلويين في الساحل، وهذا بعد أيام قليلة من الوقت المفترض لصدور تقرير «لجنة التحقيق في أحداث الساحل». كان من شأن صدور تقرير يروي الحقيقة ويَعِدُ بالعدالة أن يُسهم في رأب الصدع الوطني الجديد الذي تسببت به المجازر ضد العلويين، وربما أن يكون له مفعول تهذيبي على قوات الحكم الحالي. بدلاً من ذلك، رأينا في تموز (يوليو) مرة ثانية الفيلم الذي سبق أن رأيناه في آذار (مارس)، ولا يمتنع أن نراه ثالثة إن لم تجر إعادة بناء جذرية للقوات المسلحة على أسس وطنية ومهنية وإنسانية.
حيال الدروز في السويداء وحيال العلويين في الساحل وغيره كانت المعالجة أسوأ من المشكلة المفترضة، وهي (المعالجة) في طائفيتها وسفاهتها وافتقارها للوطنية وحسِّ الكرامة مُرشَّحة لأن تبقى في الذاكرات طويلاً. أسوأ من ذلك، أضعفت هذه المسالك معارضي الحكم الأسدي القدامى والمتطلعين إلى أوضاع أكثر حرية وعدالة بين العلويين، مثلما أضعفت بين الدروز الداعمينَ لمبدأ الدولة، والمُتطلّعين إلى سورية موحدة يشاركون فيها غيرهَم الانتماءَ لها والاعتزازَ بها.
وانتهت جولتها الأخيرة بعد ذلك إلى الفشل، فشل التعويل على ضامنين خارجيين لحسم صراعات داخلية، بدل توسيع شركاء الداخل لتحمُّل الضغوط الخارجية، وسير البلد إلى الأمام على قدمين اثنتين: السياسة والأمن، تعددية السياسة ووحدة السيادة، الحريات العامة وحكم القانون.
والخلاصة، أن الوضع غير مستقر لأنه لا يقبل الاستقرار، يَصنعُ الخصومَ والأعداءَ بوفرة، ولا يكسب أصدقاء جدداً في الداخل، وهذا بينما هو بالكاد يقف على قدم واحدة، غير متوازن.
استطراد
لم تمر أيام العار في السويداء دون عدوان إسرائيلي جديد، أسقطَ ضحايا من القوات السورية ودمَّرَ عتاداً، ومثّلَ عامل تعقيد وإزمان. إسرائيل اليوم فاعل ثالث يُضاف إلى الحكم في دمشق وتركيبة أهلية مسلحة في السويداء يقودها شيخ العقل حكمت الهجري. والأرجح أن إسرائيل كانت ستضرب قوات الحكم الجديد دون طلب من الهجري، لأنها فرصة لها للمزيد من إضعافه وتقويض فُرَص البلد في التعافي، وهو ما ثابرت عليه منذ ظهر 8/12/2024، يوم سقوط الحكم الأسدي. وكذلك من أجل إخراج مرتفعات الجولان المحتلة من أي تفاوض راهن أو مستقبلي، وحصر عمليات التفاوض بما جرى احتلاله من أراض في بضع الشهور الماضية.
لكن طلب الهجري دعم «فخامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو»، بين آخرين منهم الرئيس الأميركي وولي عهد العربية السعودية وملك الأردن، يُضفي شرعية على الاعتداء الإسرائيلي ويطبِّعه، ويضع إسرائيل في موقع صاحب القول المقبول في شأن حماية الدروز في سورية. ولذلك أُقدِّرُ أن إسرائيل لم تتدخل لأن الهجري طلب، بل إنها طلبت منه أن يطلب تَدخُّلها في العلن، بينما يجمع بينهما موقف مُتقارب من الحكم السوري الجديد.
طلب الدعم الإسرائيلي مُستوجِب للإدانة بكلام واضح. إنه سابقة سيئة يمتنع ألا يكون لها ما بعدها من لواحق وذيول طويلة. وفي مثل هذا المقام المُخجِل، يشعر المرء بالحرج من الاضطرار للتذكير بأن إسرائيل وسَّعت احتلالها في سورية بعد احتلال سابق عمره يقترب من ستين عاماً، وأنها منهمكة منذ ما يقترب من عامين في عمليات جينوسايد في غزة وعموم فلسطين، وأننا حيال حكومة هي الأشد يمينية وعنصرية وتطرفاً في تاريخ الكيان الإبادي.
* * * * *
تبقى الأولوية بعد هذا كله لظهور بيئة سياسية داخلية تقوم على المشاركة والتعددية والثقة. وفي هذا الشأن مسؤولية من هُم في السلطة العمومية لا تضاهيها أي مسؤولية أخرى، لأنهم القوة العامة التي تتسبّبُ أسواءُ التفكير والقرار والتصرف من طرفها بالكوارث، وربما الانهيار الوطني، ولأن من شأن حُسن فعلها أن يولد انفراجاً عاماً وروحاً إيجابية بين عموم السوريين.
مقالات مشابهة