لا يمكن تفسير رفض إسرائيل وصمها بممارسة العنصرية والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بالإنكار فقط، كأي مجرم ينكر جريمته، إذ ذلك الرفض ينبع من مركبات أعمق، وأكثر رسوخاً، كونه يتأتى من بعد عقيدي/أيديولوجي، أو من صميم الوعي الذاتي للإسرائيليين، أو لمعظمهم، النابع من خلطة دينية ـ سياسية، كما تجلت في الفكرة الصهيونية التي رأت بإقامة إسرائيل، بكل الوسائل، قيمة أخلاقية كبرى، دونها كل شيء، علماً أنها في ذلك تتماهى مع جلادها، أي مع النازية التي قالت بتفوق العرق الآري، ونجم عنها أهوال راح ضحيتها عشرات الملايين في أوروبا، وضمنهم اليهود، وخراب عمران مدن في امتداد القارة الأوروبية.
هذا التحديد هو الذي جعل إسرائيل ترى في ذاتها قيمة أخلاقية عليا، وجعلها حريصة على احتكار مكانة الضحية في الضمير العالمي، وأنها مستثناة من القانون الدولي، نظرياً وعملياً، إذ رغم أنها قامت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة (273، 1949)، إلا أنها قامت، أساساً، بفضل قوتها العسكرية، وبفضل دعم الدول الغربية الكبرى لها، وعلى حساب الشعب الفلسطيني (1948).
على ذلك ربما يستغرب البعض ذلك الإنكار، أو الادعاء الإسرائيلي، أو ذلك التجرؤ على الرأي العام، وعلى القانون الدولي، إذ تدّعي إسرائيل أنها الدولة التي تحدد أخلاق العالم، من موقفه منها، وأن جيشها الذي يقصف الفلسطينيين ويشردهم ويدمر عمرانهم، ويقطع عنهم الماء والكهرباء والغذاء والدواء والمأوى، هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، علماً أنه يفعل ما كان يفعله الجيش النازي باليهود وغيرهم في أوروبا، كأن خلاص “اليهود”، المزيف، كما رأته، أو اقترحته الصهيونية، لا يتم باندماجهم في مجتمعاتهم، بل ببقائهم في “غيتو”، وبتماهيهم مع سياسات جلاديهم، على حساب الفلسطينيين، وعلى حساب المواثيق والمعايير الدولية.
في هذا الإطار ثمة قول مأثور لغولدا مائير (الرئيسة السابقة لحكومة إسرائيل)، ينطوي على بجاحة عالية، ويلخص كل شيء، إذ تقول فيه: “لن أسامح الفلسطينيين لأنهم جعلوا جيشنا يقتل أطفالهم”، أي أنها تلوم الضحية، ضحيتها هي، على مجرد مقاومتها للظلم، ولاستباحة إسرائيل لحقها في الحياة والحرية والعدالة.
مثال على كل ما تقدم ما يجري في محكمة العدل الدولية، حيث تنكر إسرائيل كل أفعالها الإجرامية التي تسمى إبادة شعب، رغم أن ذلك يجري أمام شاشات العالم، وتعتبر أن هجوم “حماس”، هو بداية التاريخ، متناسية كل ما فعلته بالشعب الفلسطيني طوال 75 عاماً، وضمن ذلك حصارها غزة منذ 17 عاماً، وحروبها المتوالية المدمرة ضدها. بل إنها ترفض أن يعتبر ذلك بمثابة إبادة جماعية، في تعريف عنصري للبشر، كأن ثمة بشراً منذورين للموت، وبشراً من عرق “أرقى”، يحق لهم قتلهم، أو إبادتهم، بدعوى الدفاع غير المحدود، وغير المنضبط، أو الموازن، عن النفس، وكأن ضحاياهم ليس لهم حق في الحياة والحرية والعدالة والدفاع عن النفس؟ وهذا تمييز يشي بأن المشكلة تكمن في أن “كل ما فعله هتلر، هو أنه فعل بالبيض، ما يفعله البيض عادة بالسود”، بحسب تعبير لحقوقي من جنوب أفريقيا. فها هو بنيامين نتنياهو (يوم 13/1) يصرح بأن حربه في غزة هي “حرب أخلاقية وعادلة ضد النازيين الجدد… معاداة السامية هي معاداة السامية، اليوم لدينا دولة وجيش وجنود شجعان يدافعون عنا، ما حدث في 7 أكتوبر لن يحدث ثانية”، مؤكداً “الاستمرار في الحرب، وزيادة جنود الاحتياط والمال، والمساعدات للنازحين من المستوطنات الحدودية”. نتنياهو هذا، وهو شخص غير متدين، لكنه يستشهد بتعاليم التوراة، بقوله: “اذكروا”، ينذر الله بني إسرائيل، “ما فعل بكم العماليق”. ثم يذكر بالوعد: “ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”؛ علما أن تلك العبارة، وما يليها من أقوال لمسؤولين إسرائيليين، أتت في محضر الاتهام الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
في الغضون هذا إسحق هرتسوغ، ويفترض أنه شخص معتدل، إلا أنه قام بكتابة رسائل على القنابل قبل أن تُلقى على السكان المحاصرين في غزة، وكان صرح (12 تشرين الأول) بأن “الأمة (الفلسطينية) بأكملها مسؤولة عما حدث… وسنقاتل حتى نكسر ظهرهم”. أما وزير الدفاع، يوآف غالانت، فقد اشتهر بتصريحه بأن الإسرائيليين “يقاتلون حيوانات بشرية” و”سنقضي على كل شيء”. وأكد قطع الكهرباء والماء والغذاء عن أهل غزة. أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فقد قال (في 10/11): “سكان غزة كلهم إرهابيون”. وبالمثل فإن زميله الوزير بتسلئيل سموتريتش دعا إلى “محو غزة”، وتشريد سكانها، بينما دعا عميحاي إلياهو، وزير التراث، إلى اعتماد الخيار النووي، وأنه “لا شيء اسمه مدني بريء في غزة”. كما قال آفي ديختر، وزير الزراعة: “نحن الآن نبدأ فعلياً نكبة غزة”.
هذه الأفكار ترجمت، أو طبقت، عملياً في حرب إسرائيل، منذ مئة يوم في غزة، وهي باتت بمثابة وثائق إدانة (أمام محكمة العدل الدولية كما ذكرت) على سياسة العقاب الجماعي، والإبادة لشعب، تقوم بها دولة احتلال، تتألف من مركب استعماري واستيطاني وعنصري وديني، يعتمد القوة الوحشية لفرض ذاته وروايته لإخضاع الفلسطينيين، أو طردهم من بلادهم.
أيضاً، ثمة شخصيات يهودية، من داخل إسرائيل وخارجها، تؤكد حقيقة إسرائيل كدولة فصل عنصري، وكدولة تتشبه بالنازية، في تعاملها مع الفلسطينيين، مثل إيلان بابيه وإيلا شوحط وأبراهام بورغ وشلومو ساند ونورمان فنلكشتاين وعميره هس وجدعون ليفي وأفي شلايم وباروخ كيمرلنج وأوري رام وجرشون شافير، وجوديت بيتلر، كما ظهر ذلك في تقارير منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية (“بتسيليم”)؛ وما أكدته تقارير صادرة عن منظمات دولية مثل “هيومن رايتس ووتش”، و”أمنستي”، والأمم المتحدة. أيضاً ظهر في هذا الإطار أن ثمة جماعات يهودية في الولايات المتحدة وأوروبا، تتحدث عن ذلك بإصدارها عرائض وبيانات تؤكد إدانة إسرائيل، تحت شعار: “ليس باسمنا”، على غرار “الصوت اليهودي من أجل السلام” (JVP)، و”إذا لم يكن الآن” (ifNotNow)، و”ناطوري كارتا”، مع مشاهير يهود، فنانين وكتاب وأكاديميين، وهي جماعات تبدي نشاطاً ملحوظاً في مجمل الحراكات والتظاهرات التي جرت في مدن وعواصم أميركية وأوروبية.
مثلاً، نورمان فنكلشتاين الذي نجا والداه من المحرقة، يرى في ما قامت به “حماس” رداً طبيعياً على سياسات إسرائيل، إذ إن “والدي كانا سيتعاطفان مع الذين اخترقوا بوابات معسكر الاعتقال (غزة) التي دمرت حياتهم…”، علماً أن الكاتب أكاديمي أميركي وهو صاحب كتاب: “صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية” (2000). أما الكاتبة الروسية ـ الأميركية (اليهودية) ماشا غيسين، وهي سليلة عائلة نجت من المحرقة (مثل فنكلشتاين)، فكتبت مقالة في «نيويوركر» عنوانها: “في ظلّ الهولوكوست”، دانت فيها الحرب على غزّة وشبّهتها بغيتو وارسو، معتبرة “أن الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نتعلم بها من التاريخ هي مقارنته بالحاضر”… مصطلح “الحي اليهودي” (في وارسو) هو وسيلة أكثر ملاءمة لوصف غزة من “سجن في الهواء الطلق”.
حتى أبراهام بورغ (رئيس كنيست وأحد قادة حزب العمل سابقاً)، يرى أنّ “الكارثة والقوة وحكم شعب آخر والأرض… أصبحت جوهر اليهودية… نحن نتصرف بالفعل في المناطق التي قمنا باحتلالها في الضفة وغزة… كما تصرّف النازيون في المناطق التي احتلوها في الغرب”. (“هآرتس”، 5/9/2023). وهذا تامير باردو (الرئيس السابق لجهاز الموساد)، مثلاً، يعتبر أن “إسرائيل تطبّق نظام فصل عنصري في الضفة الغربية… يقربنا من نهاية الحلم الصهيوني”. وكان النائب السابق لرئيس الموساد عميرام ليفين قد صرح بـ”أن ما تشهده الضفة الغربية، بعد 57 عاماً من الاحتلال، هو أبارثايد، والجيش الإسرائيلي بدأ التورط في جرائم حرب… تذكّر بالعمليات التي حدثت في ألمانيا النازية… لدى القيام بجولة في مدينة الخليل، ستصادف شوارع لا يستطيع العرب السير فيها”. (“يديعوت”، 7/9/2023). أما يوسي كلاين (أكاديمي) فأكد خواء، أو تناقض، الادّعاء القائل إنّ إسرائيل يهودية وديموقراطية، فبرأيه: “اليهودية والديموقراطية” هدف خيالي… دولة يهودية… دولة شريعة، ليست ديموقراطية… فجوة بين اليهود العلمانيين والليبراليين وحفنة الفاشيين المتدينين… السيطرة والاحتلال ليسا وسيلة بل غاية… الفاشية اليهودية تضع الدولة فوق الفرد”. (“هآرتس”، 28/9/2023)