مشاهده تخلق الحدث وتنافس السيناريو وتسهم في تقديم فهم مغاير للسينما

المصور السينمائي البريطاني روجر ديكنز   (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية – التواصل الاجتماعي)

في كل فيلم له يصنع المصور السينمائي البريطاني روجر ديكنز دهشة لدى المتلقي، ذلك أن مشاهده تخلق الحدث وتجعل الناس يندهشون من قوتها في تقديم فهم مغاير للسينما ومتخيلها، بل إن الرجل بات يعرف عالمياً بـ “مصور اللقطة السينمائية الواحدة”، وهي فلسفة مغايرة في الفن السابع.

وفي وقت يعتبر المخرجون  المونتاج عنصراً أساساً في العملية السينمائية، يأتي ديكنز ويكسر نمطية الفكرة حين يجعل الكاميرا مفتوحة على تحولات الفضاء السينمائي.

وعلى هذا الأساس يعد روجر أهم المصورين في تاريخ السينما، ذلك أن إسهاماته كبيرة من حيث التفكير في الصورة وميكانيزماتها، كما أن له وعياً أصيلاً بفلسفتها وما ينبغي أن تكون عليه، فهذا النمط من الإبداع الفني يقودنا إلى اعتبار أن التصوير أو الكتابة أو حتى المونتاج ليست مجرد عناصر سينمائية بقدر ما هي تفكير فلسفي يقود المبدع إلى اكتشاف أشياء مختلفة في مسارها.

والبحث عن المدهش سمة أساس في أسلوب ديكنز التصويري على رغم أن اللقطة الواحدة موجودة في تاريخ السينما، إلا أن استحضارها مجدداً بتلك الطريقة في فيلم “1917” عام 2019 الذي حققه المخرج البريطاني الفائز بجائزة “أوسكار” سام مينديز كان مختلفاً.

فلسفة اللقطة الواحدة

تتميز هذه التقنية في تاريخ التصوير السينمائي بقوتها في بسط أجزاء كبيرة من الواقع لدرجة تبدو فيها وكأنها امتداد للحياة الحقيقية في فوضاها، لكن ما يميزها هو نزوعها من التكثيف صوب نمط من صورة تعرض حيثيات وتفاصيل الواقع، فإذا كان الفيلم يصور عبر مجموعة من اللقطات المختلفة من زوايا معينة فإن اللقطة الواحدة تصور بطريقة متواصلة تحافظ على حرارة المشهد، وهي ليست بذخاً جمالياً يتوسله المخرج السينمائي بقدر ما هي في جوهرها عملية فكرية يستند إليها المخرج لإبراز جماليات الواقع، مما يعني أننا أمام نمط معين من التصوير تغدو فيه الصورة وسيلة لقول ما لا يستطيع السيناريو قوله، بل إن هذه الطريقة في سينما جون لوك غودار تبدو وكأنها تقبض عن الحقيقة، بحكم أن التقطيع السينمائي على مستوى التصوير والمونتاج يشوهان الحقيقة.

ومن خلال هذه الطريقة يسلك ديكنز فلسفة مغايرة في إظهار الحقيقة ومدى صلتها بالواقع من دون إخضاعها لمساحيق التجميل المتمثلة في جماليات الديكور وتصوير كل لقطة لوحدها، إذ إن اللقطة الواحدة تُظهر بطريقة جمالية كيف يمكن أن تصبح امتداداً حقيقياً للواقع البصري المباشر، سواء الذي تنتمي إليه شخصيات الفيلم المتخيلة أو الذي ننتمي إليه نحن كبشر.

 

في عام 2002 استطاع المخرج الروسي الكبير ألكساندر سوكوروف تصوير فيلمه “رشان آرك” بعدما صور لقطة واحدة مدتها 96 دقيقة، فقد أبرز من خلال هذه الطريقة مدى نجاعة التقنية في الدفع بالمشاهد صوب ارتياد آفاق رحبة، إذ تُخلق اللقطة الواحدة بحسب مدتها، فقد تكون 10 دقائق أو 20 أو أكثر، أي أنه لا عمر لها باستثناء أن توظيفها وإطارها الزمني يظل خاضعاً لرغبة المخرج وميكانيزمات المشهد السينمائي.

في الثمانينيات لم يكن ديكنز مشهوراً بالطريقة التي يطلعنا عليها اليوم، إذ لم يحقق شيئاً من النجاح داخل عدد من الأعمال التلفزيونية البريطانية، غير أن انتقاله إلى الولايات المتحدة وبداية الاشتغال مع المخرجين إيثان وجويل كوين عام 1991 بفيلم “بارتون فينك” شكلا فرصة له لارتياد العالمية، بعدما بدأت أعماله تترشح لجوائز عدة ذات ثقل فني، وفي مختلف أفلام ديكنز تبدو صوره حميمية وأكثر اتصالاً بجسده، فمن خلال الصورة يرسم ملامح تصور شعري للعالم، فاللعب بالألوان وانعكاساتها على الصورة يعتبر شرطاً أساساً في مشروع ديكنز البصري، وتصور كهذا يمنح المشاهد السينمائية براعتها وأصالتها في نقل الواقع، لهذا يرى عدد من النقاد والباحثين أن ديكنز يصور العالم كما يريده لا كما يرغب فيه المخرج، وهذا الإبداع المدهش يقوده إلى ابتداع أشكال بصرية جديدة، بل إنه يكسر الأنساق البصرية المتعارف عليها بحكم تلك الحمولة التي يصبغها على صوره ولقطاته ومشاهده، ذلك أنه يشحنها بأفكار ومشاعر فتأتي الصورة مركبة وحاملة أكثر من معنى.

دهشة اللقطة

يولي ديكنز في مشاهده السينمائية الهامش عناية خاصة، إذ يعد لديه شرطاً في صناعته البصرية، وعبره يرسم تصوراً جديداً للعالم، كما تبدو مشاهد أفلامه وكأنها تقف نداً للسيناريو، فهما لا يمشيان بشكل متواز بين الكتابة والصورة بقدر ما يرسمان آفاقاً مختلفة، يتقاطعان تارة ويلتصقان أخرى لدرجة تبدو التفاصيل المملة التي عادة ما يهملها المصورون والمخرجون أهم من أشياء أخرى تبدو لهم ذات قيمة، وهذا في حد ذاته يصنع التفرد في سيرة ديكنز ويجعل لقطاته الطويلة مشرعة على تحولات السينما وجماليات الصورة.

وحين نتحدث عن اللقطة الواحدة نكون أمام تقنية تصوير ذات عمر طويل، وكل هذا في وقت لا يعرف فيه العالم العربي بهذا النوع من الاشتغال، وغالباً ما يعزو المخرجون هذا الغياب إلى عوامل تتعلق بالإمكانات على رغم توافرها اليوم في العالم العربي أكثر من أي وقت مضى، و

نتحدث هنا عن تقنية سينمائية عمرها حوالى 70 عاماً لم تعرف طريقها بعد إلى العالم العربي، فعن أية حداثة سينمائية عربية نتحدث؟ بل كيف يمكن تحقيقها في وقت تطالعنا في أفلام عربية وكأنها نسخة واحدة تتكرر إلى ما لا نهاية؟

اللقطة الواحدة فلسفة رائدة تتجاوز في اشتغالاتها البعد التقني المرتبط بالكاميرا، وحتى الطريقة المختلفة في نقل الواقع إلى الصورة السينمائية، لتصبح ذات أثر كبير في علاقتها بمفهوم الحقيقة.