عادة في مثل هذه الحالات التي يغيب فيها مسؤولون في أية دولة يكون لهم التأثير الأعلى مؤسساتياً على رسم سياستها، وان الدول المحيطة يعمل خبراؤها على تحديد مديات تأثير الغياب ذلك على علاقة تلك الدولة معها، والحالة الإيرانية أكثر ما يكون العراق معني بها مع دول أخرى كلبنان وسوريا واليمن وكذلك الخليج العربي، لكن يبقى العراق هو الأكثر تأثراً بتغيير السياسة الإيرانية الخارجية.
فمع غياب الرئيس رئيسي الذي هو من أوائل من خاطب الشعب العراقي باللغة العربية، وكان مبرمجاً له زيارة إقليم كوردستان كأول رئيس إيراني في التاريخ الحديث يزور أربيل، وبفاعلية وزير الخارجية الراحل وحضوره الميداني في العراق بما أنه كان عاملاً دبلوماسياً رفيعاً في السفارة الإيرانية في بغداد عام 1997 وجرأته في المواجهة، فإن السؤال يزداد إلحاحاً.
قبل الإجابة يكون ضرورياً توضيح أساسين من أسس النظام الإيراني، الأول أن السلطة العليا هي لدى المرشد الأعلى، وبوجوده لا تغيير في أي شيء سوى التفاصيل، والثاني أن المؤسسات الإيرانية موضوعة وضعاً لايؤثر بوجودها أي حادث من هذا النوع على سير أمور البلاد أو زعزعة النظام الحاكم، فمجلس صيانة الدستور هو الذي يحدد الخطوات التالية بكل هدوء ومن دون تلكؤ أو قلق. ما يعني أن الأسس العامة للسياسة الداخلية والخارجية خصوصاً والغايات تُحَدَّدان من مكتب المرشد وبموافقة منه، ولكن هل هذا يعني أن ليس للرئيس أو لوزير الخارجية تأثير على السياسة واتجاهاتها للبلاد؟
بلا شك للرجلين تأثير، لكن في مجالين، الأول، طرح الرؤى والأهداف والسياسات التي يرونها من مصلحة النظام لكن شرط موافقة المرشد، والثاني، أن أي سياسة توضع فإن تأثير القائم على تحويلها إلى واقع سيكون له دور في إنعكاسها على الدول المعنية، مزاج الرئيس القادم وتجربته في المجال وأساليبه وقدرته على تحويل النظريات الى واقع بلا ريب تترك بصماتها الواضحة على صورة العلاقة بين الدول، حتى ولو كانت الغايات واحدة، فهناك من يصل الى مبتغاه بالترغيب والآخر بالترهيب، ومن بالحوار يحصل على المراد ومن بالإيذاء، من الدبلوماسيين من هو صبور ومن هو متشنج يفور أعصابه عند رؤية من لا يمشي كما يريد له من أن يمشي، فمن هذين الجانبين غياب الشخصين الأبرزين في إيران والبديلين القادمين سيكون له إنعكاس على طبيعة العلاقات، إضافة الى الخسارة المستقبلية في العقول القيادية للنظام الحاكم، فحتى لو كان البديل موجوداً ففي الظروف التي يجتازها لا يمتلك الكثير من العقول القيادية المفكرة، لأن النظام مرّت على وجوده خمسة واربعون عاماً، لم يكن عاماً واحداً منه بلا قلاقل أو مشاكل داخلية أو مع الخارج، إنتاج العقول في مثل هكذا حالات لن يكون من السهولة.
لكن العلاقة العراقية الإيرانية من نوع مختلف، وبما أن النظام الحاكم في إيران يتكون من مؤسستين، وهما المرشد والحكومة، فإن من يمتلك خطوط السياسة مع العراق هو المرشد وتبقى على الحكومة الأمور الدبلوماسية العامة من الناحية الرسمية التنفيذية وهي تأتي بالمرتبة الثانية، في حين أن العلاقة بين البلدين لم تكن من هذا النوع من الأول بل يمسك المرشد والقريبون منه بخيوطها الأساسية والتفصيلية، بكلمة أخرى أن مكتب المرشد والحرس الثوري هما من يديران السياسة الإيرانية في العراق ويعبران عنها، عقب إنهيار النظام العراقي السابق والتغيير الحاصل عبر الغزو، يقول ريكاردو سانشير الذي كان يقود القوات الأميركية في العراق إن قائد فيلق القدس الإيراني في وقته – قاسم سليماني- أرسل له رسالة نصية على هاتفه الخاص يقول فيها إنه من يمثل سياسة إيران في العراق طالباً اللقاء، لكن سانشيز رفض حسب روايته هو، وكلما يحصل شيء أو يحتاج الإيرانيون إلى التدخل الميداني المباشر دون المرور بالقنوات الدبلوماسية المعهودة، فإن إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس هو من يأتي وليس وزير الخارجية، وهذه أدلة واضحة على أن السياسة الخارجية تجاه العراق هي من إختصاص المرشد وحرس ثورته.
كان قاسم سليماني يتجول في مقارّ الأحزاب العراقية ومراكزها كأنه يتجول في أسواق طهران للتسوق من دون موعد، كان الإخبار يكفي، وأحياناً حتى الإخبار لم يكن يتم!، لم يكن يحتاج الى تأشيرة من السفارة العراقية في طهران، وحدث أن طلب السفير الأميركي الاسبق في بغداد زلماي خليلزاد من وزير الخارجية العراقي الاسبق هوشيار زيبارى موافقة وزارته على دخول سليماني الأراضي العراقية لكن الوزير لم يمكن لديه ذلك.
وكل دولة أخرى وضعها شبيه بالعراق، فإن الامر هو ذاته، مثل سوريا، فقبل إغتيال واشنطن لقاسم سليماني، وصل الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران وكان محمد جواد ظريف من يقود حقيبة الخارجية، لكن الرجل لم يكن على علم بزيارة بشار الى طهران إلا بسماع الخبر عَبْر الإعلام، جرّاء ذلك قدم الإستقالة عبر منصة تويتر في شباط 2019 لكن الرئيس حسن روحاني رفضها.
في ضوء ذلك يمكن فهم السطوة التي يتمتع بها المسلحون في العراق من الفصائل المقربة من ايران، حيث لم تنجح الحكومة في ضبطهم، ولا للعلاقة الحميمة الرسمية بين الدولتين لأن علاقتهم وصاحب السيطرة عليهم هو الحرس الثوري وأعلى منه مكتب المرشد، وكانت الصواريخ التي ضربت أربيل خلال السنتين الماضيتين وتحديداً في 16-1-2024 لم تكن القنصلية الإيرانية في أربيل على علم بها، والحرس الثوري وليس وزارة الدفاع هو من أعلن عنها.
هذه أدلة على أن الموقف الإيراني تجاه العراق، وإدارة الوضع فيها، أو تحديد ما تريده إيران من الحكومة العراقية والأسس التي ينطلق منها الإيرانيون في السياسة الخارجية، لن يطرأ عليها تأثير كبير، وإنما وربما في طريقة الإدارة حسب قدرة الشخص ومزاجه وعقليته التي تقيس بها الأمور والأحداث.