قد يكون من المبكر الحديث عن قرب توقف آلة الحرب الإسرائيلية المتوحشة على قطاع غزة مصحوباً بوصف «الوشيك» بمناسبة صدور قرار مجلس الأمن الأخير بهذا الخصوص الذي تبنى «خارطة الطريق» الأمريكية بلا تعديلات جوهرية، وبشبه إجماع من أعضاء المجلس، مع امتناع روسيا عن التصويت. ولكن القرار المشار إليه قد وضع سقفاً لما يمكن أن يحصل عليه الطرف الفلسطيني على الأقل من غير ضمان الوصول إلى هذا السقف، أي من غير ضمان التزام إسرائيلي كامل بمقتضيات تنفيذ بنوده ومراحله الثلاث المفتوحة مبدئياً على تأثيرات موازين القوى المحلية والعالمية والمتغيرات المحتملة في الأشهر المقبلة. برغم كل ذلك يمكن القول إن الجزء الأصعب من المعاناة المباشرة لأهل غزة قد بات وراءهم، مع عدم استبعاد مجازر إضافية كما حصل في عملية تحرير الرهائن الأربعة التي كلفت عشرات القتلى من المدنيين الفلسطينيين.
فبعد مرور يومين على صدور قرار مجلس الأمن لم تعلن الحكومة الإسرائيلية بعد عن موافقتها عليه، على رغم زعم الرئيس الأمريكي أن الخطة التي قدمها قبل حين، وسيتبناها مجلس الأمن لاحقاً، إنما هي خطة إسرائيلية. وأيضاً على رغم أن حركة حماس قد أعلنت موافقتها على قرار مجلس الأمن على الفور. وللتغطية على التلكؤ الإسرائيلي في الموافقة قال كل من بايدن ووزير خارجيته بلينكن إن «قرار وقف الحرب هو في يد القيادة الميدانية للحركة، وبالذات بيد يحيى السنوار»! وكأن السنوار وما يمثله من الجناح العسكري للحركة هو الطرف المعتدي الذي لا يريد توقف الحرب! ولم يقولا كلمة واحدة عن امتناع الحكومة الإسرائيلية، إلى الآن، عن إعلان تأييدها لقرار مجلس الأمن.
الأمر اللافت هو أن الاعتراض على تلكؤ حكومة نتنياهو في الموافقة قد جاء من داخلها حين أعلن وزير الدفاع في حكومة الحرب بني غانتس استقالته احتجاجاً على معاندتها في مواصلة العمليات العسكرية، بدلاً من أن يأتي من حليفها الأمريكي الذي من المفترض أنه يمارس الضغوط عليها للقبول بخطة بايدن أي إنهاء الحرب التي بات استمرارها يشكل خطراً على إسرائيل نفسها، وهذه هي وجهة نظر غانتس والمعارضة الإسرائيلية، فهما ينطلقان في اعتراضهما من مصلحة إسرائيلية لا ضدها، الأمر الذي ينطبق على الحليف الأمريكي أيضاً الذي بادر إلى تقديم مشروع القرار إلى مجلس الأمن منحازاً بصورة تامة لمصلحة إسرائيل وليس من منطلق موضوعية غائبة تجاه الصراع الدائر.
إن سقف ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون، في الشروط القائمة، هو وقف الحرب على غزة مقابل إطلاق الرهائن الإسرائيليين، وهذا جوهر قرار مجلس الأمن
من المحتمل أن نشهد تداعيات سريعة لهذا الانشقاق بانهيار الائتلاف الحكومي في إسرائيل والذهاب إلى انتخابات مبكرة يبدو من المرجح أن يخسرها نتنياهو وحزبه. ولكن بين الدعوة المفترضة لانتخابات مبكرة وإجرائها زمن طويل لا يحتمل فراغاً حكومياً، وسيتعين على نتنياهو أن يختار بين تعزيز الائتلاف الحالي بتيارات أكثر تشدداً، أو التخلص من شركائه المتطرفين وإقامة تحالف جديد مع المعارضة، ومن المحتمل أن يضطر لاختيار الخيار الثاني بسبب الضغط الأمريكي وهو ما يوجب إعلان الموافقة على قرار مجلس الأمن والانخراط مع حركة حماس في مفاوضات تنفيذية. أي عملياً انتهاء الحرب.
أما من جهة حركة حماس، فلا يتوقع أن تعترض قيادتها العسكرية على قرار المكتب السياسي الذي سارع للموافقة على قرار مجلس الأمن، فضغط شلال الدم الفلسطيني سيكون أكثر فاعلية من الضغوط الإيرانية التي لا تريد للحرب أن تتوقف، ما دامت بعيدة هم حدودها وتحقق لها مكاسب سياسية، الأمر الذي عبر عنه ولي الفقيه بصراحة بعد صدور قرار مجلس الأمن حين دعا الفلسطينيين إلى مواصلة القتال لتحصيل حقوقهم. قد تسعى حركة الجهاد الإسلامي الأكثر ارتباطاً بالأجندة الإيرانية إلى المشاغبة على قرار حماس وانخراطها المتوقع في المفاوضات التنفيذية، لكنها في هذه الحالة ستجد نفسها في عزلة عن مجتمعها الفلسطيني الذي يتحمل كلفة الحرب الباهظة ويريد للمجزرة المستمرة أن تتوقف اليوم قبل الغد. ومن المحتمل أن تنشط الدبلوماسية الأمريكية تجاه إيران لتذليل هذه العقبة المحتملة، كما حدث في شهر نيسان إزاء الصدام الإيراني ـ الإسرائيلي المباشر. في الإطار نفسه من رفض إيران لوقف الحرب نلاحظ استمرار التصعيد بين حزب الله وإسرائيل بالوتيرة نفسها على رغم التهديدات الإسرائيلية بـ«رد قوي» يتجاوز المناوشات المعتادة على جبهة شمال إسرائيل.
إن سقف ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون، في الشروط القائمة، هو وقف الحرب على غزة مقابل إطلاق الرهائن الإسرائيليين، وهذا جوهر قرار مجلس الأمن الذي لا يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، أما الكلام عن إعادة الإعمار وحل الدولتين فهو مجرد غلاف تجميلي لإرضاء ضمير الرأي العام العالمي الذي جنح في اتجاه التضامن مع الفلسطينيين وتجريم الحرب الإسرائيلية على غزة، فوجب «إعادة ضبطه» على إيقاع «حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها» وفق منظور القوى الدولية الفاعلة.
من جهة أخرى لا يمكن توقع أي تساهل من هذه القوى الدولية، قبل إسرائيل نفسها، مع بقاء حركة حماس كقوة مسيطرة في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. قد يكون أفضل سيناريو أمامها هو نوع من الاندماج مع السلطة الفلسطينية القائمة.