زيارة يومين للعاصمة الروسية موسكو، ليست كأي زيارة شهدها الكرملين في السنتين الماضيتين وتحديداً بعد الحرب في أوكرانيا. فالزائر هو رئيس أكبر ديموقراطية في العالم وباتت تشكل المنافس الصاعد بوجه الصين تجارياً واقتصادياً. أبعد من ذلك الزائر هو حليف قويّ للولايات للمتحدة.

طبقاً لذلك وأكثر، قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزائره رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي “وسام القديس أندرو الرسول الأول”، وهو أعلى وسام في روسيا الاتحادية، وذلك “لمساهمته المتميزة في تطوير شراكة استراتيجية”، واتفق الرجلان على مواصلة تعزيزها وتطويرها. وهنا ندرك لماذا أُطلق على الزيارة عنوان “روسيا والهند: شراكة قوية ومتوسعة”.

ولا يمكن فصل هذه الترتيبات عن واقع أن الزيارة تخللها افتتاح أعمال القمة السنوية بين الدولتين، لكنها الأولى لرئيس الوزراء الهندي منذ 5 سنوات لروسيا، كذلك الأولى منذ إعادة انتخابه. الاستقبال الحار والعناق بين بوتين ومودي أثارا استياء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي عبّر عن “خيبة أمل كبيرة وضربة قاضية لجهود السلام”.

لكن من دون إعطاء تفاصيل، شكر زعيم الكرملين ضيفه على جهوده للتوصل إلى حلّ سلمي للحرب بالقول “أشكرك على الاهتمام الذي تبديه بالأزمات المستعصية، بما في ذلك محاولة إيجاد سبل لحلّ الأزمة في أوكرانيا، بطرق سلمية”. أما مودي فكان ردّه بأن “إحلال السلام ضروري من أجل مستقبل الأجيال القادمة… ولا يمكن أن تنجح محادثات السلام وسط البنادق والرصاص والقنابل”.

هذه العلاقة الخاصة، سمحت لمودي بتوجيه انتقاد غداة هجوم دموي على مستشفى للأطفال في العاصمة الأوكرانية كييف، وقال “سواء كان الدافع حرباً أو صراعاً أو هجوماً إرهابياً، فإن أي شخص يؤمن بقيم الإنسانية سيتألم عند سماعه عن وقوع خسائر بشرية… القلب ينفطر ويتألم كثيرا لمقتل أطفال أبرياء”. وهذه ليست المرة الأولى التي يبدو فيها مودي وكأنه ينتقد روسيا بسبب أعمالها في أوكرانيا، ففي أيلول (سبتمبر) 2022، قال مودي لبوتين “هذا الزمن ليس زمن الحروب”، وردّ بوتين حينها بأنه يتفهم مخاوف مودي. ومع ذلك، لم تشجب الهند الحرب الروسية على أوكرانيا.

غير أن هذا “التوبيخ” كما رغب البعض بتسميته، لم يفسد في الودّ قضية، إذ أن نيودلهي وموسكو تدركان أن خريطة العالم آخذة بالتغيّر، وبالنسبة لمودي فإن الحفاظ على علاقة استراتيجية متينة مع الكرملين، من شأنه أن يخفف من الاندفاعة الروسية تجاه الصين. وهذه مسألة تريدها موسكو أيضاً للإشارة إلى حلفاء نيودلهي في واشنطن، أن لروسيا الاتحادية القوة والقدرة على بناء تحالفات مع دول قريبة منها.

 

التأقلم مع خريطة متغيرة

عطفاً على المتغيرات الجيوسياسية، يسعى الزعيمان بوتين ومودي إلى التأقلم معها، وبحسب المعلومات المتداولة، أنه خلال القمة تفاوض الطرفان على إمكانية توصيل موارد الطاقة الروسية عبر طريق بحر الشمال إلى الموانئ الهندية. وتشمل هذه الموارد الغاز الطبيعي المسال، وإن تمّ ذلك سيكون بمثابة تغيير كبير بما يتعلق بتنويع الاقتصاد الروسي بعد العقوبات الغربية. وبالنسبة للاقتصاد الهندي الصاعد، تحقيق ذلك يساهم في جعله الثالث عالمياً.

وكانت نيودلهي قد اغتنمت الفرصة لشراء كميات غير مسبوقة من النفط الروسي بأسعار مخفضة نظراً لأن العقوبات أدت إلى تدمير العلاقات التجارية بين موسكو والغرب. ومن أجل تسريع معدل نمو التجارة الثنائية والحفاظ عليه، اتفق الزعيمان على زيادة حجم التجارة إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030.

والتنسيق الاستراتيجي بين الجارتين النوويتين ذهب إلى حدّ تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بلاده تقدم الدعم الكامل لنيل الهند العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

وفي سياق السياسة الخارجية، كان اتفاق خلال القمة على مشاورات منتظمة بين وزارة الخارجية حول جدول الأعمال الثنائي وقضايا الأمم المتحدة ومكافحة الإرهاب والتفاعل القنصلي والقضايا الدبلوماسية، وكذلك حول القضايا العالمية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك.

وكتب مودي على منصة “اكس” أن المحادثات بشأن “سبل تنويع التعاون الهندي – الروسي في قطاعات مثل التجارة والأمن والزراعة والتكنولوجيا والابتكار، كانت مثمرة”.

 

مواجهة الصين… أولاً

في السنوات الأخيرة كانت العلاقات الأمنية والعسكرية بين الهند والدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة تتطور بشكل لافت، على الرغم من أن العَتاد الهندي هو روسيّ الصنع، والتعاون بين الدولتين يعود إلى عقود طويلة. ومع تناقض العاملين، فإن قمة موسكو أثمرت عن الاتفاق على الإنتاج المشترك في الهند لقطع الغيار اللازمة لصيانة الأسلحة الروسية، والتعاون في تطوير وإنتاج واستخدام محركات الصواريخ، وفقاً لبرنامج “صنع في الهند” من خلال نقل التكنولوجيا والتعاون المشترك ومشاريع لتلبية احتياجات القوات المسلحة الهندية، وكذلك باتفاق الطرفين على التصدير اللاحق إلى دول ثالثة صديقة لكلتا الدولتين.

وفي حزيران (يونيو) 2023 كانت زيارة “تاريخية” لرئيس الوزراء الهندي مودي لواشنطن، وخلالها أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن “الشراكة بين البلدين رفعت مستوى التعاون مع أستراليا واليابان، لتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي”. وهذه مسألة في رأس أولوية الاستراتيجية الأميركية بما يعرف بالـ”إيندوباسيفيك” لمواجهة مشروع الصين “الحزام والطريق” ومتفرعاته مثل “عقد اللؤلؤ”، ولم تنته تلك الزيارة من دون التوقيع على عقود عسكرية مشتركة.

ولأن المواجهة مع الصين تستدعي وضع أكثر من خطة، كان الاتفاق خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي 2023، على تنفيذ الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو ما يعرف بـ”الكوريدور الهندي”، وهو ما سوف يسمح لدول شرق آسيا بايصال بضائعها إلى أوروبا من دون الحاجة إلى الصين. إضافة إلى الاتفاقيات الأمنية والاستخباراتية التي تشمل الهند.

بالعودة إلى قمة موسكو، فإن أول تعليق صدر عن واشنطن اقتصر على المتحدث باسم الخارجية ماثيو ميلر الذي أشار إلى أن على مودي “توضيح أن أي حلّ للنزاع في أوكرانيا يجب أن يحترم ميثاق الأمم المتحدة في ما يتعلق بوحدة أراضي أوكرانيا وسيادة أوكرانيا”.