لا يوجد في تاريخ المشرق العربي طوال القرن الماضي، أسوأ من اللحظة الراهنة، التي تكثّف تهتّك إجماعاتنا وتهشّم أحوالنا، بيد أن ما يُفترض إداركه أننا لسنا في لحظة يتيمة أو فريدة، فاللحظة الراهنة امتداد لما اختبرناه سابقاً من انكسارات، في إخفاق ما سمّي بـ”الثورة العربية الكبرى”، مطلع القرن العشرين، ونكبة فلسطين (1948) بإقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ثم في ما شهدناه في النكبة الثانية (1967) التي احتلت فيها إسرائيل أراضي أكبر منها مرات، وهزمت جيوشاً عربية…
القصد أن النكبة، التي نشهد فصولها ومآسيها وأهوالها اليوم في غزة والضفة ولبنان، كنا شهدنا فصولاً منها من قبل، كأن النكبات باتت تشكّل حياتنا وتاريخنا، وتصوّر عجزنا وتخلّفنا، وانفصامنا عن واقعنا وعن العالم.
الفرق الوحيد أن النكبة الحالية اتخذت شكل حرب إبادة جماعية، تشنها إسرائيل بكل وحشية، وهي نكبة معلنة يشاهد تفاصيلها كل العالم، من أقصاه إلى أقصاه، وضمنه ما يسمى الأمتين العربية والإسلامية، من دون أن يصدر من أي أحد، أي حركة او همسة تغيّر أو تخفّف من هول تلك المأساة التي يعيشها الفلسطينيون منذ 14 شهراً، وباتت تشمل لبنان، وربما سوريا لاحقاً.
لا يمكن تفسير هذه الحال سوى بالاعتراف الواضح والجريء، بأننا إزاء حالة فشل عام، تشمل الأنظمة والمجتمعات والأحزاب السياسية، وضمنها الميليشيات المسلّحة، وحركات التحرر الوطني والمقاومات، من دون أن تُستَنتج من ذلك مساواة تعسفية بين غير متساوين.
والفكرة هنا أن الأنظمة السائدة هي التي تتحمل معظم المسؤولية عن تدهور أحوالنا، وضمنها صعود هذا النمط من الأحزاب والحركات السياسية والميليشيات الفاشلة، التي بدت كظواهر نكوصية ومرضية وسلبية.
والحال فإن تلك الأنظمة تصرفت كسلطة تغوّلت على الدولة والمجتمع، إذ أطاحت الدولة، أو حالت دون تمكّنها، كما أطاحت المجتمع، أو همّشته، بعدم تمكينها حقوق المواطنة، وحؤولها دون قيامة مجتمع المواطنين الأحرار والمتساوين، باعتبار الدولة، كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين؛ على علاتها ومشاكلها، هي الأداة الأساسية الجبارة التي تبني المجتمع، وتؤطّر طاقاته ومسارات تطوره من كل النواحي.
ما تقدّم لا يلغي أو يخفّف من دور
العامل الخارجي في التأخّر والتدهور في العالم العربي، بخاصة في مشرقه، سواء القوى الغربية أو إسرائيل، ولكن هذا العامل موجود في أماكن أخرى في العالم من دون أن يمنع نهوضها، كما أن هذا العامل لا يشمل كل البلدان العربية، وإن كان أكثر تأثيراً في بلدان المشرق العربي. مع ذلك فإن الحال في دول المغرب العربي والسودان ليست أفضل منها في مشرقه، من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
والقصد أن العامل الذاتي الداخلي، المتمثل بالأنظمة الاستبدادية، وحال المجتمع التقليدي، المتكلّس عند حدود الطوائف والإثنيات والهويات قبل السياسية، والقوى السياسية اللادولتية، التي تستهويها الشعارات وما تعتبره قضايا كبرى، بدل حقوق المواطن وأحواله المعيشية، هي المسؤول الأساسي عن الفشل العمومي في البلدان العربية، التي تضع الجميع متكلّسين في حلقة للفرجة على أكبر منصة مشاهدة في العالم، وأكبر مقتلة ومجزرة ومقبرة.
ثمة ظاهرتان: الأولى، أن إسرائيل في ظل حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، بقيادة نتانياهو وسموتريتش وبن غفير، بشنّها حرب إبادة جماعية في غزة ولبنان، تبشّر بعودة الفاشية، والميل إلى الانقضاض على قيم الحداثة والليبرالية الديمقراطية، التي أعلت من شأن القيم الإنسانية، قيم الحرية والكرامة والمساواة، وهو ما يتمظهر أيضاً، في مظاهر تقييد حرية الرأي في بعض الدول الغربية، ومحاولة حظر نقد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية بدعوى مناهضة اللاسامية، ما ينجم عنه ضده، في موضع قضية الفلسطينيين كقضية حرية وعدالة في العالم.
أما الثانية، فهي أننا عربياً إزاء انهيار فكرة أو بديهية، أو وهم العالم العربي، أو النظام العربي، إذ لا يوجد شيء من ذلك، إذا استثنيا اللغة والعاطفة وروح الخطابة، كدلالة على عالم عربي أو نظام عربي أو أمة عربية، فما بالك بأمة إسلامية؟
لا أعرف كيف يمكن مواجهة هاتين الظاهرتين، لكن أقله هذا ما يجب إدراكه والاعتراف به بداية وقبل أي شيء، ما يفترض مراجعة كل البديهيات والأوهام التي أدت بنا إلى هنا.
@highlight