يعتبر التنوع الثقافي والديني والإثني من أهم السمات التي يتمتع بها المجتمع السوري، وهو ليس مجرد ظاهرة اجتماعية حديثة، بل إرث حضاري تشكّل عبر قرون من التفاعل بين حضارات متعددة. هذا التنوع، هو الذي جعل من سورية تاريخيًا مركزًا للتعددية الثقافية، وهو طالما كان مصدر إبداع وحيوية وقوة لها، إلا أنه لم ينج كغيره من الثوابت السورية من الاستغلال والقمع في بعض المحطات التاريخية، وصولا إلى هذه اللحظة، التي تمر بها البلاد، وهي كما تركت بالسابق أثرًا عميقًا على المجتمع، فتحوّلت من رمز وحدة إلى أداة نزاع سياسي، قد يتحول اليوم إلى سلاح يحسم المعركة محليًا ودوليًا.
في التاريخ السوري الحديث، شهدت البلاد محطات عديدة أُسيء فيها استخدام التنوع الثقافي والديني والإثني، فبعد الاستقلال، شهدت سورية تناميا للحركة القومية العروبية، التي سعت إلى تعزيز الهوية العربية، إلا أن بعض السياسات المطبقة في هذا الإطار أدت إلى تهميش بعض الأقليات. ومن أبرز هذه السياسات كانت حملات التعريب القسرية في الستينيات، التي أسهمت في زيادة الشعور بالعزلة والتوتر بين المكونات المختلفة، وعلى سبيل المثال، فقد تم تقييد استخدام الأكراد للغتهم سواء في الحياة الأسرية أو في المجال الرسمي، كما تم منعهم من التعبير عن هويتهم الثقافية بحرية.
هذه السياسات لم تؤدِ إلى الاندماج الذي كان يُروج له النظام الحاكم، بل على العكس، أسهمت في زيادة التوترات التي كان من الممكن تجنبها، لو تم احترام التنوع الثقافي والحقوق على أساس المواطنة، بدلًا من التمسك بالهوية القومية الضيقة.
في السبعينيات والثمانينيات، حاولت السلطة الحاكمة تقديم نفسها كضامن للتنوع الثقافي، مؤكدة أنها تحمي الأقليات الدينية من أي تهديدات، هذا الخطاب رغم ما حمله من تطمينات ظاهرية، استخدم في الواقع لتعزيز سيطرة نظامي الأسد الأب والابن، وإضفاء شرعية على سياساتهما، فعاشت بعض الطوائف في هذه الفترات، في حالة من القلق، نتيجة لممارسات سياسية تعمق الانقسام، حيث بات التنوع أداة تستخدم لتعزيز الولاءات السياسية، بدلا من أن يكون جسرًا للوحدة الوطنية.
هذه التحديات لم تأتِ فقط من السلطة. فخلال الصراع الأخير في سورية، ظهرت جماعات متشددة سعت إلى فرض رؤى أحادية على مجتمع متنوع، ما أدى إلى استهداف الهوية الثقافية والدينية لمكونات عديدة. كمثال، فقد كانت هناك محاولات لتدمير المواقع التراثية والدينية، مثل تدمير (معبد بل) في تدمر على يد تنظيم “داعش”، وهو رمز حضاري يعكس التداخل الثقافي بين الشعوب. هذا التدمير لم يكن مجرد خسارة مادية، بل كان هجومًا على الروح الثقافية التي جمعت السوريين لعقود طويلة.
وإلى جانب هذه التحديات التاريخية، ظهرت مؤخرًا بعض الصور أو الفيديوهات لممارسات قد تهدد مرة أخرى التعددية الثقافية في سورية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم بحقيقتها إلا أن التذكير بأن حلب مدينة تنوع بشري هائل من كل الديانات والقوميات، وأي محاولة لانتهاك حق أي منها في ممارسة نشاطاتها الاقتصادية على اختلافها، قد يعطي رسالة مختلفة تماما عن خطاب دخول الفصائل المعارضة إلى حلب، والتي أكدت احترامها لجميع المكونات السورية، ما يعني أنها مطالبة فعليًا بنفي أنها تسعى لفرض رؤية ثقافية أحادية على مجتمع متنوع.
فأي ممارسات قمعية ترفض الآخر ومعتقداته ورغباته هي مدفوعة بتوجهات أيديولوجية تنطلق من أنها ترى في التنوع تهديدًا، فتسعى إلى تقليصه أو استبعاده من خلال فرض نمط حياتي معين على المجتمع، وهذا ما يضعف الوحدة الوطنية في أي بلد متنوع المعتقدات.
وعلى الرغم من أن بعض هذه الحوادث قد تبدو شخصية، أو محدودة في تأثيرها، إلا أنها تحمل دلالات أعمق، وقد تمنح النظام من جديد، فرصة الدفاع عن نفسه، كوجه علماني أمام المجتمع الدولي، واعادة استخدام التنوع كأداة سياسية لتكريس نفوذه دوليًا، تحت مسمى (حماية قيم التعايش والتسامح). واللافت أن استغلال حماية التنوع داخل سورية ليس محصورا بالنظام، بل هناك قوى دولية، أيضا، تستخدم قضايا التنوع كجزء من استراتيجياتها السياسية، فكل طرف يتبنى رؤية مختلفة حول كيفية التعامل مع المكونات السورية، وهو ما يسهم في تعقيد المسألة، ويزيد من حدة الانقسامات الداخلية.
“أحيانا تكفي صورة واحدة مقابل عشرات أو مئات المشاهد الجيدة، لقلب المشهد، وضرب مصداقية الخطاب السياسي المعتدل التي تسعى المعارضة لتقديمه”
أحيانا تكفي صورة واحدة مقابل عشرات أو مئات المشاهد الجيدة، لقلب المشهد، وضرب مصداقية الخطاب السياسي المعتدل التي تسعى المعارضة لتقديمه، ويضعف من الثقة (المشكوك بها أساسًا) بقدرة هذه الأطراف على تقديم نموذج جامع يتسم بالقبول بين مختلف فئات المجتمع، كما أن هذه الممارسات تهدد الجهود المبذولة لتحقيق مصالحة وطنية، لأنها تخلق انقسامات إضافية بين مكونات المجتمع السوري، فالتجارب التاريخية تُظهر بوضوح أن قمع التنوع أو استغلاله يؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمع وإلى تقويض هويته الوطنية.
إن محاولات فرض رؤية أحادية على مجتمع متنوع ستواجه رفضًا محليًا ودوليًا، لأنها تعادي القيم الإنسانية الأساسية مثل الحرية والمساواة والتعددية، لأنه عندما تستهدف الحريات الثقافية والدينية، كما حدث في تلك المحطات، فإن ذلك لا يُضعف المكونات المستهدفة فقط، بل يهدد تماسك المجتمع ككل.
إن حماية التنوع السوري وإعادة الاعتبار له تتطلب فصله عن النزاعات السياسية وتكريسه كقيمة ثقافية وانسانية، وكفيمة تاريخية ومعنوية، حيث لا يمكن النظر إلى التنوع كمجرد واقع اجتماعي، بل يجب أن يكون حجر الزاوية في بناء هوية وطنية جامعة تحترم كل مكوناتها، وهذه مسؤولية مهمة ومشتركة بين المجتمع المدني والمثقفين والمؤسسات الثقافية، مع أي سلطة حاكمة، والتي يجب أن تعمل على تعزيز قيم التعايش واحترام الاختلاف، وما لم يسارع المجتمع إلى انتقاد أي صورة تهددها، ستترسخ كفعل سلطوي، تمارسه على المجتمع نفسه كل سلطة مسلحة وفقا لايديولوجيا قادتها.
قد يكون من الصعب تقبل حرية الرأي في موضوع حساس كهذا، لكن الصمت عنه سيكون بداية الخضوع إلى هوية جديدة، وغريبة عن تنوع المجتمع السوري، بتاريخه العريق كمركز للتعددية الثقافية، ومثال للعالم في كيفية استعادة التعايش بالرغم من الأزمات. إن الدفاع عن حقنا في هذا التنوع ليس مجرد واجب وطني، بل هو ضرورة أخلاقية وإنسانية تذكر بأن التعددية هي مصدر قوة، وغنى وحيوية، وليست عامل ضعف، ومحاولة إلباس سورية عباءة حامل السلاح المنتصر، لا تختلف عن محاولة اختطافها لعائلة الأسد الحاكمة.
*كاتبة سورية.
شارك هذا المقال