لم تكن زيارة سوريا هذه المرّة كسابقاتها. لا “سماجة” نقاط التفتيش المنتشرة من جديدة يابوس إلى دمشق نفسها، لا الصور والأعلام نفسها، لا ذريعة الدخول نفسها، ولا الناس هم أنفسهم. ببساطة كلّ شيء تبدّل بعد “اختفاء” نظام بشار الأسد بين ليلة وضحاها وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على الحكم، أو يمكن القول “شبه السيطرة”.عندما اجتزت الحدود اللبنانية في 19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أدركت أنني لم أعد بحاجة للقول إني “أستاذ مدرسة” تجنباً للإجراءات الطويلة والمعقدة التي كانت تُغرقنا لساعات إبان حكم النظام السابق، فـ”تهمة” الصحافي الأجنبي كانت تلاحق زملاء المهنة متى أرادوا دخول الأراضي السورية، ولم أستطع حتى اليوم استيعاب هذا الخوف من “الصحافي”، حتى ولو كان في زيارة خاصة.
كذلك، لم أعد بحاجة إلى الاتصال بـ”المعارف” في كل مرة أردت فيها زيارة سوريا، ليتواصلوا بدورهم مع أحد ضباط أجهزة الأمن لـ”تفييش” اسمي والتأكد من “نظافته”، فحتى تشابه الأسماء في ذلك الحين كان يمكن أن يؤدي إلى اختفاء أي شخص لأسابيع وأشهر، وربما لسنوات.
عند نقاط التفتيش والأمن، تسمع الكثير من المصطلحات الإسلامية: “السلام عليكم”، “بأمان الله”، توكّل على الله”، وغيرها من العبارات التي قد لا تتناسب وأدبيات مجتمع فسيفسائي، لكنها على الأقل لا تحمل إهانات متعمّدة كما في عهد ولّى. ولم يعد سائق التاكسي مضطراً لحمل ربطات الخبز وعلب الـ”مارلبورو” وعملات نقدية من فئة الألفين والخمسة آلاف ليرة سورية كـ”هدايا تسهيل مرور” لحواجز كان الهدف منها “حفظ الدولة”، فتحولت إلى “حفظ جيوب” ضباط وعناصر فاسدين كان لهم ولأمثالهم دور كبير في تأجيج الأزمة أصلاً، حتى إن بعض الأصدقاء السوريين كانوا يقولون لي سرّاً إنّ “الضباط هم من يطيلون عمر الحرب لتحقيق أكبر قدر من الأرباح” في ظلّ نظام يحتفظ بمكاسب الدولة لنفسه، ويترك جيشه ومواطنيه يواجهون قلّة المردود المالي، وندرة الطعام والغاز، وانعدام الكهرباء، وتقنين البنزين ومازوت التدفئة، والأخير لا يكاد يكفي لساعتين في اليوم وسط برد قارس.
حين تزور سجناً كصيدنايا أو مركزاً أمنياً كـ”فرع فلسطين”، أوّل ما يمكن أن يتبادر إلى ذهنك حجم الظلم الذي يمكن أن يولّد ثورة، أو حتى تطرّفاً. عندما تلتقي أحد المعتقلين السابقين، وما أكثرهم، ليسرد لك قصته ومعاناته من داخل زنزانته، لا يمكنك سوى أن تشعر بكمٍّ هائل من الألم والضيق في صدرك. لا يمكن لأي إنسان أن يتخيّل حتى حجم المعاناة التي عاشها أصحاب التجربة. ولا أزال حتى اليوم أشتمّ الرائحة القذرة لتلك الغرف المظلمة.
في الشوارع، اختفت صور آل الأسد، ولكن العلم السوري القديم لا يزال حاضراً. لم يسعف الوقت القوى الجديدة لإزالته عن الجدران والحواجز والمكعبات الاسمنتية والمباني وأبواب المحلات المغلقة. ربّما أصحاب تلك المحلات قد فرّوا خوفاً من التغيير الحاصل ولم يعودوا بعد.
سمة “المجتمع الأمني” والشعور الدائم بأنك مراقب لا تزال حاضرة في سوريا، التي تعايش شعبها مع هذا الواقع لأكثر من خمسة عقود، حتى أضحت مراقبة بعضهم و”الغرباء” أمثالنا عادة لن يستطيعوا التخلّص منها بالسهولة التي نعتقدها.
من صاحب الفندق إلى حارسه، ومن مدير المقهى إلى “معلّم النرجيلة”، ومن سائق التاكسي إلى أي شخص يمكن أن تلتقيه. كلّهم آذان صاغية. وربما يعود هذا إلى الخوف الذي لا يزال أبرز السمات الحاضرة بقوة بين السوريين، فكل منهم لديه مخاوف لأسباب مختلفة، حتى إن بعضهم لا يزال يخفض صوته عند ذكر الأسد خوفاً من عودته! آخرون مرتعبون من أيديولوجية السلطات الحالية التي لا تتوافق مع معتقداتهم الدينية كأقليات علوية ومسيحية ودرزية وشيعية، وفي كثير من الأحيان يخشون التعبير عن ذلك، فيحاولون طمأنة أنفسهم، لكنْ للوجوه كلام آخر لا تعكسه الألسنة. الكثيرون يُقلقهم التغيير والمجهول والمستقبل.
مخاوف تقابلها مشاعر فرح لدى فئة كبيرة برحيل الأسد ونظامه، الذي “ظلم وأخاف وجوّع وقتل” شعبه، وفقاً لتعبيراتهم.
للإنصاف، وفي ما شهدت خلال ستة أيام في سوريا، يمكن القول إن عناصر الهيئة المنتشرين في العاصمة السورية هم الأكثر تنظيماً، بل إنّ انضباطهم وتهذيبهم شبه مثالي، ويبدو أنه يهدف إلى استبدال الصورة القديمة لـ”جبهة النصرة” التي طبعتها سنوات الحرب بأخرى تتناسب والمرحلة الراهنة. كما أن الإدارات المدنية التي شُكّلت على عجل، وفي مقدّمها المكتب الإعلامي، تُحاول قدر الإمكان التعاون مع الراغبين بذلك.
لكن كل ما سبق لا ينفي مشروعية المخاوف، خاصة لدى الأقليات الدينية التي تتناقل في ما بينها مقاطع فيديو من خارج دمشق، وفيها الكثير من الدموية والانتقام والتهديدات المرتبطة بأسس دينية ومذهبية بحتة. كما أنّ بعض ما عاينّاه من تصرفات استفزازية في أكثر من حي دمشقي كباب توما وباب شرقي والقصاع تبعث على القلق، وهي صادرة بغالبيتها عن مجموعات من درعا وحوران.
أخيراً، لا يمكن الحكم على تجربة لا تزال في بداياتها، لكن التجاوزات تحتاج معالجة سريعة، إذ لا يمكن التسليم بما سمعناه من آراء البعض عن “وضع أفضل من المتوقّع” بعد 14 عاماً من الاقتتال لإضفاء الشرعية على ما يوصف بـ”التصرفات الفردية”. إذا كان لا بدّ من محاسبة فلتكن عادلة وتحت سقف القانون والدولة للسير نحو سوريا جديدة، بعيدة عن أي جنون قد تولّده النار المشتعلة تحت رماد الأحقاد المتراكمة.