عبد الرحمن اليوسف بين عالمين. عمرو الملّاح.المصدر: الجمهورية .نت

بعد عقود عديدة وسنوات مديدة من الإجماع، الذي يكاد يكون تاماً بين أطراف متنابذة واتجاهات متعارضة، على «إدانة» الإرث السياسي الذي خلفه وراءه عبد الرحمن باشا اليوسف (1872-1920)، عاد الحديث ليتجدد خلال الصيف الماضي عن آخر باشوات دمشق العثمانيين على أثر تَحوّل قصره المنيف ذات يوم إلى ركام من رماد بفعل الحريق، الذي التهم فجر يوم الأحد 16 تموز (يوليو) 2023 أجزاء واسعة مما تبقى من النسيج العمراني لحي سوق ساروجة الدمشقي.
ولعلّ من الأسباب الكامنة وراء هذه الإدانة، التي بلغت حدّ التخوين في بعض الأحيان، السلوك السياسي الذي انتهجه اليوسف طوال حياته، وكان ملمحه الأبرز الواقعية والبراغماتية، ما أثار حفيظة خصومه السياسيين الأكثر راديكالية الذين لم يترددوا في رسم صورة نمطية سلبية عنه في حياته، وما فتئوا يُغذّونها بعد اغتياله.
ليست الغاية من هذا المقال إطلاق أي حكم قيمة على اليوسف ومواقفه وتحولاته، سواء كان سلبياً أم إيجابياً، فهذه ليست مهمة الباحث في التاريخ، بقدر ما يرمي إلى تناول الظروف التي أحاطت بعملية اتخاذه قرارات تتعلق بالخيارات السياسية المتاحة أمامه، عبر وضعها في سياقها التاريخي ضمن إطار العالم العثماني الذي قضى فيه الشطر الأكبر من حياته، والعالم المنبثق عن فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى الذي أملى عليه التكيُّف مع المتغيرات والتحديات، التي تمخضت عن الواقع الجديد الذي فرضه الأفول العثماني غداة تلك الحرب. ففي المحصلة، دفع عبد الرحمن اليوسف وزميله علاء الدين الدروبي حياتهما ثمناً لهذه التحولات المصيرية، التي غيَّرت وجه سوريا في مرحلة ما بعد الانهيار العثماني في ما قد يعتبر أولى عمليات الاغتيال السياسي في تاريخ سوريا الحديث، والتي راحا ضحيتها.
اليوسف أميراً للحج
كان اليوسف، المولود في دمشق في العام 1872، ثمرة زواج الائتلاف بين عائلتي شمدين واليوسف اللتين تنحدران من أصول كردية، وتنتميان إلى طبقة الأعيان الدمشقيين النافذين ممّن يَجمعون بين صفتي البيروقراطيين-الملاك، الذين أفرزتهم «التنظيمات» التي تُعَدّ أهم حركة إصلاحية تحضيرية شهدتها الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر.1
وقد أنهى تعليمه الرسمي في المدرسة الرشدية (الإعدادية) العسكرية بدمشق، مُجيداً العربية والتركية والفرنسية بالإضافة إلى تحدّثه الكردية. ولم يكد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى التحق بـ«قلم التحريرات» بالولاية، وهي دائرة مُكلّفة بتحرير الرسائل بين الولاية والجهات الرسمية وحفظ المراسلات والوثائق الرسمية.2
برز اليوسف بوصفه أحد أعيان دمشق في وقت مبكر من شبابه، حين تدبَّرَ جده لأمه سعيد باشا شمدين في العام 1892 أن يخلفه في إمارة مَحمَل الحج الشامي، وهي وظيفة حسّاسة ذات طابع أمني وديني، بعد عجزه عن النهوض بأعبائها نظراً لتقدّمه في السن، بالإضافة إلى تعيينه عضواً طبيعياً (بحكم المنصب) في مجلس إدارة الولاية.3
5.ولا بد من الإشارة، بهذا الصدد، إلى أن ما تورده بعض المصادر من أن تَنازُل الجد عن منصبه هذا لصالح حفيده قد أثار معارضة شديدة من جانب آل العابد نظراً لصغر سنه، ما لبثت أن تحولت إلى صراع بين أحمد عزت باشا العابد والشيخ أبي الهدى الصيادي المُتنافسَين على الفوز بثقة السلطان عبد الحميد، إنما هي سردية يتعين إخضاعها للمراجعة التاريخية بالرجوع إلى محفوظات الأرشيف العثماني، التي وإن أشارت إلى تمكن هولو باشا العابد كبير الأسرة النافذة تلك من انتزاع إمارة الحج، لكن ذلك كان لمدة وجيزة لم تتجاوز أياماً قليلة من شهر أيلول (سبتمبر) 1888، وسرعان ما استردَّ شمدين منصبه بعد ذلك، أي قبل تولي اليوسف هذا المنصب بقرابة أربعة أعوام.5
كما تخلّى شمدين، الذي كان يُعَدّ أكبر مَلّاكٍ للأراضي في ولاية سورية، لحفيده عن جميع ثروته الطائلة من بعده، والتـي تضمَّنـت أراضـيَ واسـعة في الجولان، والغوطة، وداره الشهيرة في حي سوق ساروجة، وأورثه أيضاً زعامة المجتمع الكردي في دمشق.6 وبحلول مطلع القرن العشرين أصبح اليوسف واحداً من أبرز أعيان دمشق، بالتزامن مع نسجه لنفسه شبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تعززت بالمصاهرة، ولا سيّما مع آل العظم والعابد الذين كانوا يقيمون أيضاً في حي سوق ساروجة، مما أضفى على هذا الحي الواقع خارج أسوار المدينة القديمة سحراً أرستقراطياً حتى صار يُسمَّى «اسطنبول الصغيرة».7

Süleyman Şefik Paşa الصادر (2013)
اليوسف في خدمة السلطان
9.توافقت الفترة التي تولى فيها اليوسف إمارة الحج مع مرحلة كانت سياسة الجامعة الإسلامية، التي أطلقها السلطان عبد الحميد، في أوج فعاليتها. ويبدو أن «الإقدام والغيرة» اللذين أظهرهما في تأدية وظيفته كانا عاملاً مؤثراً في انتزاعه الحظوة عند السلطان، كما تجلّى في ترقيته إلى رتبة «روم ايلي بكلربكي» (1896)، التي تعد من أعلى مراتب الباشوية في الهرمية العثمانية
وعلى الرغم من أن مشروع سكة حديد الحجاز كان من المفترض نظرياً أن يُقوِّضَ القاعدة التي يستند إليها نفوذ اليوسف، فمن الواضح أنه أفاد منه عبر عضويته في لجنة دمشق التي تولَّت جمع التبرعات والإشراف على مراحل التنفيذ؛ فنال الوسام المجيدي من الدرجة الأولى (1900) «تقديراً لخدماته وحميّته في إنشاء الخط الحديدي الحجازي وخطّ التلغراف»، وميدالية اللياقة الذهبية (1902) «مكافأة له فيما يخصّ استكشاف مسار خط حديد الحجاز الحميدي».10.خوري، أعيان المدن، ص 92.
من جانبه، دعم اليوسف نهج التنظيمات «الحميدية» العمرانية التحديثية التي أفادت منها دمشق عمرانياً وخدمياً بصورة ملحوظة، بينما لم يٍُبدِ أي معارضة للنظام الفردي المركزي المطلق الذي أقامه السلطان طالما أن توازن القوى القائم في المدينة آنذاك لا يهدد مكانته.10
اليوسف مؤيداً ثورة تركيا الفتاة
انقسمت مواقف السوريين إزاء هبوب رياح التغيير، التي حملها الانقلاب الذي نفذه الضباط المنتمين لجمعية «الاتحاد والترقي» (تركيا الفتاة بالأمس)، بين ليبراليين مُرحّبين ومحافظين رافضين. ونجح الاتحاديون في إرغام السلطان على إعادة العمل بالدستور، الذي مضى ثلاثون عاماً على تعطيله. وخشيَ أعيانُ دمشق أن تعود استمراريتهم السياسية طوال ثلاثة عقود إلى الاهتزاز من جديد، لا سيما بعدما شرع الاتحاديون في إجراء حملة إقالات في العاصمة استهدفت أركان النظام الحميدي، وفي مقدمهم رجل الدولة الدمشقي أحمد عزت العابد ثاني أمناء سرّ السلطان. وسرعان ما أدرك اليوسف مدى عمق التحولات المستجدة التي تحتم عليه تأييد الاتحاديين، الذين عهدوا إليه برئاسة فرع جمعية الاتحاد والترقي بدمشق (1908-1914)
وكانت أولى المهام التي نيطَت باليوسف في العهد الجديد العمل على إضعاف سلطة شريف مكة، الحسين، في الحجاز حين أعلن في مطلع العام 1909 أثناء وجوده في مكة بوصفه أميراً للحج الشامي عن رغبته في العودة بالحجيج عبر البحر نظراً لعجز الشريف عن ضبط الأمن على الطريق البرية، فلم يتأخر الشريف عن الرد مُرغِماً مَحمَلَ الحج الشامي على العودة بطريق البر بقيادة شقيقه، بينما اضطرَ اليوسف للعودة وحيداً عبر البحر، فما كان منه إلا أن استقالَ من منصبه احتجاجاً.12 ومنذ ذلك الحين بدا واضحاً اصطفافه مع الاتحاديين، ومُناصبته الشريف حسين وثورته العربية الكبرى فيما بعد العداءَ المرير.
14.ولن يطول به الوقت مُجرَّداً من أي منصب حكومي قبل أن يُنتخب نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني في الانتخابات التكميلية، التي أجريت في العام 1909 لملء أحد المقاعد النيابية الشاغرة، ثم أُعيدَ انتخابه نائباً في العام 1912، ليُعيَّنَ بعد ذلك عضواً في مجلس الأعيان في العام 1914. علاوة على ذلك، انضم اليوسف إلى جهاز الاستخبارات الخاص بأنور باشا، الذي كان أحد «ثالوث الباشوات» الاتحاديين الذين أمسكوا بزمام السلطة في الدولة، وعُهدت إليه معالجة الاتجاهات الانفصالية العربية.
يمكن أن يُعزَى تشكيك الحاكم العسكري المطلق على سوريا، أحمد جمال باشا الكبير الملقب بـ«السفاح» في الحوليات التاريخية السورية، بولاء اليوسف وتجريده من مهامه السياسية15 إلى الرعاية التي حظي بها من جانب أنور؛ إذ كانت مواقف أحمد جمال محكومة بأحد عاملين، إما طموحاته الشخصية، أو تنافسه الأساسي مع أنور.16 وكان لافتاً في هذا السياق إصدار «الحكومة المحلية» أواخر العام 1916 قراراً بإلقاء الحجز على أملاك اليوسف، ووضعها تحت سلطة مديرية الأوقاف بدمشق.17 ولكن ذلك لم يستمرّ طويلاً، إذ سرعان ما جرى التعجيل بإبعاد أحمد جمال عن سوريا أواخر العام 1917 على وقع الهزائم المتلاحقة التي أصابت الجيش العثماني المتقهقر أمام ضربات القوات الشريفية المدعومة بريطانياً.
اليوسف وفيصل الأول: من الافتراق إلى الاتفاق
سارع اليوسف إلى اتخاذ موقف مُتحفّظ إزاء إعلان الأمير فيصل في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1918 عن قيام الحكومة العربية بدمشق، حيث غاب اسمه عن عريضة الدعم والولاء الحاشدة التي قدمتها دمشق للحسين ونجله في مطلع العام 1919.19
وكان من شأن بروز «السياسة الجماهيرية»، مستعيرين وصف المؤرخ جميس غيلفين، ومحاولة تقويض نفوذ الأعيان التقليديين، وهما العاملان اللذان طَبعَا العهد الفيصلي الوجيز بطابعهما، أن ساهما في اتخاذ الأعيان، وفي عِدادهم اليوسف، موقفاً مناهضاً للحكومة العربية. وسرعان ما برز خلاف الأعيان مع التحالف الشريفي-الفتاتي حينما سعى إلى تجريدهم من الألقاب الشرفية التي كانوا يحملونها، ولا سيما الباشوية. بيدَ أن هذا الخلاف ما لبث أن تعمَّقَ حين أحجمت قيادة حزب الاستقلال العربي الذي تَشكَّلَ في صيف العام 1919 بوصفه الواجهة العلنية للعربية الفتاة، عن تلبية طلب اليوسف ومحمد فوزي باشا العظم الانضمام إلى صفوفه، ولكن فيصل دخل على خط التهدئة داعياً الحزب لتأليف «لجنة استشارية» ليكونا من أعضائها.
ويمكن أن يُعزا طلب اليوسف والعظم الانتساب إلى ذلك الحزب، الذي بات بمثابة الحزب الحاكم، إلى إحساسهما المتعاظم بالتهميش على أيدي شخصيات حجازية وعراقية وفلسطينية ممن كانوا يوصفون بـ«الغرباء»،والذين رافقوا الجيش العربي الفاتح من جهة، وبدافع من حرصهما على تأمين عدم إهمال مصالحهما الشخصية ومصالح قاعدتهما الاجتماعية التي كانا يستندان إليها من جهة أخرى.
وسرعان ما تصاعدت حدة الخلافات مع التحضير لانتخابات المؤتمر السوري العام (البرلمان) التي جرت في حزيران (يونيو) 1919 وفق قانون الانتخاب العثماني الذي كان لا يزال سائداً، وسجلت نصراً كبيراً لصالح الأعيان التقليديين من ذوي النزعة المحافظة نسبياً، ولا سيما في دمشق وحلب، على حساب المرشحين الاستقلاليين-الفتاتيين «القوميين».
واللافت للنظر أن أول انتخابات جرت لرئاسة المؤتمر السوري، حينما افتتح أعماله بمقر النادي العربي بدمشق يوم السبت 5 تموز (يوليو) 1919، قد انحصرت بالباشوات السوريين الثلاثة الأبرز محمد فوزي العظم، وعبد الرحمن اليوسف (دمشق)، ومرعي الملاح (حلب)، وكان ذلك بمثابة أول استقطاب في المشهد السياسي السوري بين قطبي الزعامة الدمشقية والحلبية. ولقد فاز العظم الأكثر انفتاحاً على نهج فيصل السياسي بالرئاسة، بينما حل الملاح ثانياً واليوسف ثالثاً، واللذين كانا أقل حماسة للعهد الجديد.25
وأما رواية عزت دروزة بشأن هيمنة الاستقلاليين- الفتاتيين على المؤتمر السوري في هذا الدور التشريعي الأول على الأقل فلا تخلو من المبالغة؛ ورواية يوسف الحكيم عن إرغام «القوميين» العظم على التنحي وإجرائهم انتخابات فاز فيها الوجيه الحمصي هاشم الأتاسي؛ ورواية خالد العظم بشأن انحصار انتخابات رئاسة المؤتمر بوالده والأتاسي، فجميعها سرديات بحاجة للمراجعة التاريخية.
حدث الانقسام الأكبر بين الأعيان التقليديين، والنخب البازغة القومية الراديكالية على خلفية تبايُن الموقف بينهما بشأن سياسات فيصل التفاوضية في مؤتمر الصلح بباريس؛ إذ مال الأعيان، وفي عِدادهم اليوسف، إلى تأييد الاتفاق الذي أبرمه فيصل مع جورج كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي في 6 كانون الثاني (يناير) 1920، وحسموا خياراتهم واتجهوا نحو قبول التفاهم مع فرنسا، بينما عارضه «الاستقلاليون الفتاتيون»، الذين كانوا يُهيمنون على الجهاز الحكومي، و«اللجنة الوطنية العليا» بزعامة الشيخ كامل القصاب ولجان الدفاع الوطني الجهوية المنبثقة عنها، التي كانت تسيطر على الشارع السوري الذي بات يُضمر العداء لنهج فيصل المعتدل وسياساته التجنيدية والضريبية.
وفي مسعى لمواجهة المعارضة الآخذة بالتصاعد من جانب أتباعه القوميين الراديكاليين الذين أصبحوا يهددون زعامته بعد تفاهمه مع كليمنصو، شرعَ فيصل بانتهاج سياسة تقوم على الانفتاح على طبقة الأعيان الدمشقيين خاصة، الذين شجعهم فور وصوله إلى العاصمة قادماً من باريس في مطالع العام 1920 على تشكيل حزب سياسي قوامه كبار الأعيان الدمشقيين التقليديين بقيادة اليوسف تحت مُسمى «الحزب الوطني السوري»، وهو الحزب ذاته الذي سيعهد إلى قياداته، التي وصمت بالخيانة والانتهازية من جانب القوميين الراديكاليين، بمحاولة إنجاز تسوية مع الفرنسيين أثناء الأيام الأخيرة من نظام حكمه.27
لقد اصطدم مشروع بناء الدولة القومية التي كان يرومها القوميون الراديكاليون، والذي بلغ ذروته مع إعلان المؤتمر السوري الاستقلال ومبايعة فيصل الأول ملكاً في 8 آذار (مارس) 1920 بالرفض من جانب «مؤتمر الصلح» الذي كَرَّسَ انتصار الحلفاء وتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية المهزومة في الحرب؛ فكانت سورية الحالية خاضعة للانتداب الفرنسي.
أرشيف مجموعة السلطان عبد الحميد (جامعة اسطنبول)
الأيام الأخيرة
غادر فيصل العاصمة إلى ضواحيها مساء اليوم السابق لاندلاع معركة ميسلون غير المتكافئة أمام الجيش الفرنسي، التي سقط فيها وزير الحربية السوري يوسف العظمة شهيداً. ولكنه ما لبث أن عاد إليها في 25 تموز (يوليو) بالتزامن مع دخول الجنرال غوابيه المدينة بعدما تلقى إشارات مشجعة توحي بإمكانية أن يعترف الفرنسيون به «رئيساً للدولة»، بينما ولى معظم القوميين الراديكاليين الأدبار.
كلَّفَ فيصل وزير داخليته علاء الدين الدروبي، الوجيه الحمصي وأحد قادة الحزب الوطني السوري والعضو في حزب الاستقلال والفتاة معاً، برئاسة حكومة تصريف أعمال أناط بها مهمة إبرام تسوية سياسية مع الفرنسيين تتضمن استمراره في الحكم عبر اختياره شخصية سياسية «معتدلة» تكون مقبولة من جانب الفرنسيين، بالإضافة إلى اضطلاعها بوظيفتها المتمثلة في الحيلولة دون حدوث الفوضى، وتجنيب البلاد الوقوع في الفراغ30.العاصمة: جريدة الحكومة الرسمية (دمشق)، «الوزارة الجديدة»، العدد 142، السنة 2، 29 تموز/ يوليو 1920، ص1؛ يوسف الحكيم، سورية والانتداب الفرنسي (بيروت: دار النهار، 1983)، ص 11-12، 26.
والواقع أن تشكيل هذه الحكومة بـ«بلاغ رسمي» نشرته الجريدة الرسمية «العاصمة» ممهوراً بتوقيع الدروبي، ويخلو من مصادقة الجنرال غورو، ويحمل تاريخ 25 تموز (يوليو) 1920، أي في أثناء وجود فيصل بدمشق، يحمل في طياته دلالة واضحة على أن فيصل ذاته هو من وقع اختياره على اسم رئيس الحكومة المكلف وفريقه الوزاري، وبالتالي، لم تكن حكومة عَيَّنَها الفرنسيون بعد سقوط الحكم الفيصلي كما هو الشائع عنها، الأمر الذي يؤكده أحد أعضائها، يوسف الحكيم، في مذكراته الذي يشدد على أن تأليفها كان بموجب «مرسوم ملكي». وقد ضمت الحكومة في تشكيلتها اليوسف بصفته رئيساً لمجلس الشورى، بالإضافة إلى احتفاظها بثلاثة وزراء سابقين، منهم فارس الخوري الذي يعد أحد أبرز «الوطنيين» السوريين بلا جدال.
ظلّت الحكومة بكامل هيئتها تمارس مهامها بعد ما أرغم الفرنسيون فيصل على مغادرة البلاد في 29 تموز (يوليو)، لتتعامل بعد ذلك مع «الانتداب» بوصفه سلطة أمر واقع فُرِضَت بقرارٍ من أعلى هيئة دولية ممثلة بـ«عصبة الأمم»، التي تتجاوز من حيث مرجعيتها القانونية السيادة الوطنية للدول وتعلو عليها؛ إذ عُرِفَ عن الدروبي والخوري تضلّعهما بالقوانين.
كان أول تحدٍّ واجهته الحكومة إعلان الجنرال غورو سلخ الأقضية الأربع (بعلبك، والبقاع، وحاصبيا، وراشيا) عن سوريا وضمها إلى دولة لبنان الكبير، والذي قابلته بالاحتجاج. وكان لافتاً بشكل خاص أن البيان الرسمي الذي أصدرته لم يتضمن معارضتها فك ارتباط الأقضية تلك إدارياً ومالياً فحسب، وإنما استنكارها أيضاً إنزال «العلم الشريفي» عن دار الحكومة ورفع «العلم اللبناني» مكانه؛ وذلك في دلالة رمزية سياسية واضحة على تمسكها بالاحتفاظ بـ«علم الاستقلال» الأول الذي أقره المؤتمر السوري بوصفه «العلم الوطني» السوري وعدم استبداله بأي علم آخر على الرغم من وقوع البلاد تحت الانتداب الفرنسي.
33.أما ثاني التحديات فتمثَّلَ في «الثورة» التي أعلنها شيوخ عشائر حوران للمطالبة بالانفصال عن سوريا، والالتحاق بشرق الأردن الخاضع للانتداب البريطاني بيد أن اختزالها في «السردية الوطنية» برفضهم تسديد الغرامة الحربية التي فرضها الجنرال غورو إنما هو أمر ينطوي على قدر كبير من التبسيط المُخِلّ، بقدر ما يُحمَّل الدروبي بالدرجة الأولى فاليوسف تالياً المسؤولية عن إصدار القرار المتعلق بإقرارها وشروعهما في جبايتها. في حين أن قرار «الغرامة الحربية» المنشور نصه بالكامل في الجريدة الرسمية «العاصمة» قد تَضمَّنَ التعليمات التنفيذية التي وضعها الخوري بوصفه وزير المالية المختص، وكان ممهوراً بتوقيع هيئة الوزارة مجتمعة، بينما كُلِّفَ وزيرا الداخلية والمالية بـ«إنفاذ أحكام هذا القرار».34..للاستزادة بشأن «فاجعة خربة غزالة»، يُنظر الحكيم، سورية والانتداب، ص 34-38؛ خوري، أوراق فارس الخوري، ص 87-88.
وفي مسعى من الحكومة لإحباط هذه المحاولة الانفصالية، ترأَّسَ الدروبي وفداً حكومياً ضم في عضويته اليوسف نظراً لـ«كبير نفوذه في حوران». ولكنهما اغتيلا في كمين نصبه لهم مسلحون مجهولون في قرية خربة غزالة بينما كانا متوجهين للتفاوض مع الحورانيين في يوم 21 آب (أغسطس) 1920.
يبقى «الباشا» عبد الرحمن اليوسف جُزءاً لا يمكن تجاهله من تاريخ سوريا المعاصر، الذي ما زالت مقاربة شخصياته أسيرة الثنائيات الحادة: العمالة والوطنية؛ الشيطنة والتقديس؛ التنكيل والتمجيد وفق ما تمليه المصالح الآنية الضيقة والعابرة. ولعل أهم تحدٍّ يواجه الباحث في عمله؛ تحدي الخروج من هذه الثنائيات ودراسة السِمات البارزة لدى تلك الشخصيات، ومسارات حياتها، وما واجهته من تحديات، وخاضته من صراعات، ووضعها في سياقها التاريخي كما كان لا كما يجب أن يكون.