كان باتينو يعمل في برنامج الأمم المتحدة في تشيلي ومراسلاً حراً لجريدة “لوموند”، ويشاهد كل صباح موكب بينوشيه يمر أمام نافذته ضمن طقوس مرعبة مكررةٍ مجللةٍ بالقوة والجبروت.
مساء الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 1992 تمكن صحافي فرنسي يدعى برونو باتينو، يبلغ من العمر 25 عاماً، من إجراء مقابلة مع أوغستو بينوشيه. وحين همَ بالدخول على الديكتاتور همسَ أحد الحُراس ساخراً: “لقد أرسلوا طفلاً إلى القائد”. سيكون هذا اللقاء ما قبل الأخير للجنرال مع الصحافة. وبعد مرور اثنين وثلاثين عاماً، يروي باتينو ظروف هذه المواجهة مع “الوحش” في كتابه الصادر عن منشورات غراسيه، مقدماً بين فصوله تأملاً عميقاً في تحولات الوحشية في السياسة.
كان باتينو يعمل في برنامج الأمم المتحدة في تشيلي ومراسلاً حراً لجريدة “لوموند”، ويشاهد كل صباح موكب بينوشيه يمر أمام نافذته ضمن طقوس مرعبة مكررةٍ مجللةٍ بالقوة والجبروت. بطريقة ما، كان هذا المشهد بمثابة طريقة يومية لتذكير الناس بحضوره الطاغي. وكان يقول في نفسه كل يوم إنه يجب أن يتمكن من الاقتراب مما كان بالنسبة إليه شراً مطلقاً. لم يكن الأمر يتعلق بإرضاء الذات، بل ربما كان يتعلق بطمأنتها. أراد أن يقترب من الشر المطلق حتى يدرك مدى غربته عنه، ومدى اختلافه عن نفسه. لكن الأمر كان أكثر تعقيداً من ذلك – وهذا ما أراد قوله في هذا الكتاب القصير والممتع.
بعد سنواتٍ من الكتابة المجتهدة والعميقة في مجال الإعلام والحياة الرقمية، يأخذنا برونو باتينو إلى حقل متحرك مليء بالأحداث عائداً إلى سنوات شبابه عندما شرع في سلوك طريق مهنة الصحافة من تشيلي، وناقلاً صراعات شبابه والغموض المجنون في التعامل مع جنرال تشيلي القاسي أوغستو بينوشيه.
في عام 1992 سيجد نفسه وجهاً لوجه مع ذلك الشرّ المطلق. كان بينوشيه قد ترك الرئاسة لكنه لا يزال القائد الأعلى للجيش منعزلاً عن الصحافة. تروي فصول الكتاب وقائع هذا اللقاء النادر، بعد خمسين عاماً من استيلاء بينوشيه على السلطة في انقلاب 11 أيلول/ سبتمبر 1973.
لم يكن ترتيب اللقاء مع الجنرال سهلاً، لأنه كان يرد بشكل سلبي على كل الطلبات التي تأتيه من الصحافة، التشيلية والأجنبية. في البداية اعتقد باتينو أنه لن يحصل إلا على خمس عشرة دقيقة؛ لذلك أراد أن يسأل كل الأسئلة دفعةً واحدةً. لكنه نُصح، على العكس من ذلك، باعتماد استراتيجية أخرى تتعلق باللعب على نقاط ضعف نفسية الديكتاتور التشيلي وهي النرجسية وادعاء المعرفة. في ذلك الوقت لم تمض فترة طويلة على سقوط الاتحاد السوفياتي وقبلها سقوط الجدار في عام 198، وكان بينوشيه يتحدث دائمًا عن الشيوعية، وبما أنه يدعي أنه جيوسياسي من طراز رفيع ومجادل ماهر، فقد بدأ الصحافي الفرنسي الشاب يلقي عليه أسئلة حول الوضع الجيوسياسي الجديد. لم يثر هذا اهتمام أحد، لا القراء ولا الصحافي، ولكنه نجح في مدّ عمر المقابلة. وعندما جاء مساعده العسكري ليخبره أنّ الوقت قد حان لإنهاء الأمر، أرسله بعيداً، مشيراً إلى أنّ الأمر سوف يستغرق وقتاً أطول بكثير.
قصة قاسية تنتهي بصحافي شاب وهو يضحك مع الشيطان، كما يطلق عليه، قائلاً :”في بداية التسعينات: كان الشيطان متخفياً لكنّه كان حاضراً دائماً. بدا لي أنه من خلال لقائه يمكنني أن أفهم ما يجعله مختلفاً عن بقية البشرية، لرؤية ما كان مفقوداً، أو ما الذي تسبّب في حدوث تغيير في الطبيعة. ربما لأطمئن نفسي بثمن بخس في مواجهة أدلة الاختلاف، أو أكون شاهداً على عصره الذي كان حينذاك يتفلت من بين قبضته رويداً رويداً”.
كان برونو باتينو نجلاً لأب بوليفي لجأ إلى فرنسا هارباً بميوله اليسارية عن أنظمة أميركا الجنوبية العسكرية، ونشأ محاطاً بصور الشخصيات الثورية التي أصبحت أيقونات محفورةً في وجدانه. يتخيل ويطرح الأسئلة حول الرجال الذين يقفون وراء تلك التمثيلات. ومن بين هذه الصور، صورة الديكتاتور التشيلي ذي النظارة السوداء، أوغستو بينوشيه، والتي تجسد الشر بالنسبة إليه.
هذه القصة الاستثنائية والمثيرة للاهتمام للغاية، تسمح لقارئها باكتشاف أو إعادة اكتشاف التاريخ المعاصر لتشيلي، ومن خلالها عصر طويلٍ ودامٍ كللته الأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية بالكثير من القسوة والضحايا، وتكتمل القصة بتأمل ذي صلة كبيرة، والذي يتبع عودة برونو باتينو إلى تشيلي عام 2024، حيث لا تزال هناك آليات الخوف من فقدان الامتيازات بالنسبة إلى البعض، والخوف من انعدام الأمن بالنسبة إلى الآخرين، والخوف من الفوضى بالنسبة إلى غيرهم. وهذا من شأنه أن يجعل التاريخ غير قابل للقراءة إلى حد كبير – وهذا الأمر من شأنه أن يؤدي إلى إثارة ظواهر خوف هائلة. فكما يقول باتينو في تأملٍ جامعٍ من تأملات الكتاب الكثيرة والباهرة :”إنّ لغز القوة المطلقة لا يتعلق بالأسلوب. الوحش يظل وحشاً. لذلك لن يتمّ جمع قمامة التاريخ أبداً. إنّها تتدفّق بانتظام أمام أعيننا غير المصدّقة. نحن لا نتعلم شيئًا من تجارب من سبقونا؛ فالمعرفة لا فائدة منها عندما يتعلق الأمر بكتابة حاضرنا”.