كنت آمل ألّا يتوقف الكرد -رغم أنهم منهكون وبالكاد يخوضون مشقة الحياة- عن التظاهر والمطالبة المستمرة بوقف التنكيل الجاري في الساحل السوري.
كان التاريخ سيذكر أن الكردي لم يعد إلى بيته، وفي أحراش جبال الساحل طفلٌ يصارع لإنقاذ حياته من غِيلانٍ أرادت رمي جـ.ـثـ.ـامـ.ـيـ.ـن العلويين في البحر “كي لا تقول الناس إن الأسماك جاعت في دولة بني أمية”.
القضية الكردية لم تعد قضية “قومية”؛ العالم أصبح أكثر تعقيداً من أن يتحمّل محدودية مفهوم القومية. قضيتنا ديمقراطية، ومعركتنا أن ينبغي أن تكون مستمرة طالما أن هنالك مظلوماً ومُضطهَداً. فاحترام الهويّات، والمجتمع الديمقراطي القائم على العدالة والمساواة، هو الطريق إلى الحفاظ على “كرديــ”ـتي.
لكن، لماذا هذا التمييز مهم؟
ثمة كتاب شائق صدر عام 1986 لمؤلفه جيمس كارز James P. Carse بعنوان: Finite and Infinite Games (اللعبة المتناهية أو المحدودة واللعبة اللامتناهية أو اللامحدودة)، وهو من الكتب الفلسفية التي أصبحت مرجعاً في مجالات عديدة، بما في ذلك السياسة والحرب.
الفكرة معقدة، تحتاج إلى تبسيط:
تقوم الألعاب المحدودة Finite Games على وجود هدف محدد، وإطار زمني للعبة (بدايتها ونهايتها)، ومجموعة قواعد متوافق عليها بين متنافسين أو أكثر، وتنتهي بإعلان فائز وخاسر (مباراة كرة القدم مثلاً، أو مسابقة وظيفية، أو الحرب في أوكرانيا، أو المفاوضات بين إسرائيل وحماس.. إلخ).
يسعى المشاركون في الألعاب المحدودة لتحقيق نصرٍ واضح، مثل الحصول على المركز الأول في سباق، أو الفوز في مسابقة رياضية، أو حتى إنجاز مهمةٍ معينة. وتنتهي اللعبة تماماً عندما يُعلَن فائز واحد، أو عندما تُسْتَوْفَى شروط الفوز.
ثمَّ لدينا الألعاب اللامحدودة Infinite Games، وهدفها الاستمرار والتطوُّر، وهي لا تضع حدّاً زمنيّاً أو شرطاً نهائيّاً يُعلَن عنده فوز أحد المشاركين. وتكمن قيمتها في التطوُّر المستمر، وإطالة أمد المشاركة والانفتاح على إمكاناتٍ جديدة. وتسمح اللعبة اللامحدودة بتعديل القواعد وتوسيعها أو تغييرها، بهدف إدخال لاعبين جُدُد أو استكشاف جوانب أكثر تنوّعاً. والهدف هو إبقاء اللعبة حيّة ومستمرة، إلى أن تنفد الموارد عند أحد الطرفين، ويُعلن انسحابه من اللعبة (كالتعلم الدائم مدى الحياة مثلاً، أو بناء علاقة إنسانية طويلة الأمد، أو الحرب الباردة).
وطالما أن اللاعبين متفقون على مبدأ اللعبة، سواء أكانت محدودة أم لا محدودة، فإنها تسير على ما يرام.
الآن، ماذا سيحصل إذا وضعنا لاعباً يعتمد مبدأ اللعبة المحدودة أمام لاعب آخر يعتمد مبدأ اللعبة اللامحدودة؟ هنا يبدأ التشويق.
ففي الحرب الفيتنامية مثلاً، اعتمدت أمريكا مبدأ اللعبة المحدودة، ووضعت نصب عينيها أهدافاً محددة للفوز بها، إلّا أن الفيتناميين اعتمدوا مبدأ اللعبة اللامحدودة التي لا تنتهي بفوز أحد الطرفين بأهداف محددة، فالمعركة كانت بالنسبة لهم معركة وجود وليس تحقيق أهداف معينة. وعلى الرغم من أن أمريكا فازت بجميع المعارك الكبرى في حرب فيتنام، واستطاعت صد هجماتهم جميعها، وخسرت في الحرب 58 ألف جندي، بينما خسر الفيتناميون نحو 3 ملايين، مع ذلك هُزمت أمريكا، وانسحبت في النهاية من فيتنام.
كيف يمكن تطبيق ذلك على القضية الكردية؟
تركيا تريد جرّ الكرد إلى ساحة ملعبها، كي تخوض معهم “لعبة” محدودة بقواعد تريد أن تفرضها. ولها أهداف واضحة ومحددة:
* تريد دفع حزب العمال الكردستاني إلى حلّ نفسه ونزع سلاحه من دون تقديم تنازلات كبرى (الحكم الذاتي، مثلاً).
* ترى أنّ استمرار الصراع يستنزف مواردها، ويُعرِّضها لضغوط دولية، وتخشى أن يستغل هذا الصراع منافسون إقليميين كإيران وروسيا وإسرائيل.
* تريد إنهاء النزاع لتقليص وجودها العسكري في شمال العراق بهدف تحسين العلاقات مع بغداد تمهيداً لمشروعات استراتيجية (مثل طريق التنمية عبر العراق).
* تريد احتواء طموحات الكرد في شمال شرق سوريا، وخفض سقف مطالبهم، وضمان عدم ظهور كيان كردي مستقل على حدودها.
* يريد أردوغان تعزيز شعبيته بوصفه الرئيس الذي أنهى صراعاً دامياً استمر 4 عقود، وقد يكسب بذلك أصوات الكرد في تركيا.
تخوض تركيا، وعلى مستويات مختلفة، لعبةً سياسية/عسكرية من أجل هذه الأهداف، وتنتهي اللعبة بتحقيقها.
الآن، إذا انجرّ الكرد إلى لعبة محدودة مع تركيا، بأهداف محددة، ستنتصر السياسة التركية لا محالة. أما إذا تبنوا قواعد لعبة لا محدودة، بأهداف مستمرة، فستخسر السياسة التركية لا محالة.
كيف يمكن للكرد تحويلها إلى لعبة لا محدودة؟
إذا جعلوا القضية الكردية قضية ديمقراطية، وهذه الدعوة هي جوهر ما أطلقه عبد الله أوجلان وصلاح دمرتاش، سينتصرون. أردوغان ليس ديمقراطياً، والديمقراطية لن تتحقق في تركيا أو سوريا بين ليلة وضحاها، إنها سيرورة مستمرة، إلى أن يُنهك الخصم وتنفد موارده؛ حتى بعد ذلك، تحتاج الديمقراطية إلى صيانة دائمة.
إذا أراد الكرد الانتصار على السياسة التركية، فإن أول خطوة عليهم القيام بها هي ألّا يعودوا إلى بيوتهم ويستمروا في التظاهر والتصعيد المدني طالما ثمة طفل في أحراش جبال الساحل يصارع لإنقاذ حياته من الغِيلان.