ملخص
ضعف إيران الحالي وهشاشة محور المقاومة يمثلان فرصة سانحة للولايات المتحدة وحلفائها لبناء نظام إقليمي جديد أكثر أماناً واستقراراً لكن هذا المسار يواجه عقبات كبرى، خصوصاً غياب حل عادل للقضية الفلسطينية، والصراعات المفتوحة في سوريا واليمن وليبيا. إن تثبيت أسس نظام إقليمي جديد يتطلب من واشنطن دوراً قيادياً مسؤولاً، يعيد الاعتبار للدبلوماسية، ويوازن بين الدعم الأمني والضغط من أجل الإصلاح السياسي والعدالة.
النظام الإيراني اليوم في وضع حرج، فهو ازداد ضعفاً في الداخل وبات مكشوفاً خارجياً أكثر من أي وقت مضى منذ الثورة الإسلامية عام 1979. وقبل هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل وما أعقبه من حرب إسرائيلية متعددة الجبهات على المصالح الإيرانية، كانت استثمارات إيران الضخمة في ترسانتها الصاروخية وبرنامجها النووي وشبكة وكلائها الإقليميين، قد قيدت إلى حد كبير استراتيجية واشنطن تجاه الشرق الأوسط. وفي واشنطن ظل محللو السياسة الأميركية المخصصة للتعامل مع إيران منقسمين على أمر واحد يتعلق بتحديد مزيج الوسائل المناسب الذي سيردع العدائية الإيرانية ردعاً فعالاً، إلا أن أولئك المحللين توافقوا عموماً على أنه لو جرى الضغط على طهران بقوة شديدة، فإن ذلك سيدفعها للاحتفاظ بلائحة خيارات انتقامية مضادة تهدد بإشعال حرب واسعة النطاق. وتاريخياً في المقابل، كان أربعة رؤساء أميركيين متعاقبين، جورج دبليو بوش، باراك أوباما، دونالد ترمب في رئاسته الأولى، وجو بايدن، قد استقروا جميعاً على استخدام الدبلوماسية والعقوبات من أجل الردع، ولم يأذنوا أبداً بشن ضربات عسكرية داخل الأراضي الإيرانية.
على أن نجاحات إسرائيل الميدانية أدت إلى تهشيم هذه التصورات المسبقة، وفتحت كوة احتمالات لإنجاز مهمة تدمير خطر إيران الإقليمي وبناء شرق أوسط أكثر أماناً واستقراراً. إذ إن قادة أساسيين في ما يسمى “محور المقاومة” الذي تتزعمه إيران لاقوا حتفهم، وسقط في أرض المعركة عشرات آلاف المقاتلين المدعومين من إيران. كما تعرضت ترسانات “المحور” إلى التدمير، وقامت إسرائيل بتحطيم مركز الصناعة العسكرية الإيرانية الذي كان يمد تلك الترسانات بالسلاح. وحين فر الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق في ديسمبر (كانون الأول)، خسر قادة طهران حليفاً مهماً كان ساعدهم في تحويل سوريا إلى مركز عبور استخدموه لإمداد الميليشيات التابعة لهم بالأسلحة والأموال والمقاتلين. كما أن الهجومين بالصواريخ الباليستية على إسرائيل، اللذين شنتهما إيران عام 2024، منيا بالفشل، مما زاد من تهشيم قوة طهران الردعية، وهذا انعكس أيضاً على معنويات الجماعات التابعة لإيران، الذين راحوا يشككون في موقع طهران ودورها كراعٍ وداعم لهم.
لقد بات مسرح الأحداث اليوم جاهزاً لإطار سياسي جديد يمكن من خلاله إصلاح البيروقراطيات الفاسدة والضعيفة التي استفادت منها إيران، ثم القيام بتعزيز هذه البيروقراطيات واستبدال القادة الضعفاء المعرضين للتأثير الإيراني. إذ إن مهمة منع إيران من العودة للتمتع بقوتها التخريبية في الشرق الأوسط لا يمكن أن تترك فقط لإسرائيل، التي تفتقر إلى المصادر ونظم التحالفات وسنوات الخبرة في التعامل مع مراحل ما بعد النزاع. فهذه المهمة تهدف إلى تأمين نظام إقليمي جديد أكثر سلماً واستقراراً، ولا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تمنع إيران من إعادة التموضع والتحصن. بل إن العملية السياسية هي الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك، والولايات المتحدة اليوم في وضعية أفضل لقيادة هذا المسار.
لكن الخطوات التي قام بها ترمب في الأشهر الأولى من ولايته الثانية ستصعب على واشنطن اغتنام هذه الفرصة التاريخية. فترمب قد يعتقد أن تفريغ السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية (الأميركية)، وتجنب التعامل مع الحكومة السورية الجديدة، وفرض عقوبات جديدة على طهران، وتصعيد الضربات العسكرية ضد وكلاء إيران في اليمن هي أمور تصوب الاستراتيجية الأميركية وتلمح بالعودة إلى ممارسة حملة “الضغوط القصوى” ضد إيران إذ سبق وطبقها خلال ولايته الأولى. إلا أن النهج الذي يقوم فقط على أداة واحدة من أدوات السياسة الخارجية، وهي العمل العسكري، لن يسمح للولايات المتحدة بالاستفادة من ضعف إيران.
لذا على ترمب، بدل ذلك، أن يجمع بين الإجراءات الصارمة والخطوات الدبلوماسية المبتكرة التي تتجاوز التواصل الهاتفي مع رؤساء الدول وتتخطى السعي إلى عقد صفقات استعراضية. فاليوم لدى الولايات المتحدة وإسرائيل وعديد من الدول العربية هدف مشترك يتمثل بتحرير الشرق الأوسط من نفوذ إيران، وهذا يشكل إجماعاً نادراً لا يتحقق على الدوام. وتحتاج واشنطن في هذا الإطار إلى جمع أصحاب المصلحة المشتركة أولئك، بغية وضع مخطط واقعي لحكم غزة وضمان أمنها وإعادة إعمارها. وعليها أن تحدد بوضوح الاستثمارات طويلة الأمد التي ستقوم بها لأمن الشرق الأوسط. وبدلاً من تجميد المعونات، على واشنطن أن تضع استراتيجية واضحة بغية تحقيق الاستقرار في المنطقة والاستجابة لحاجات شعوبها، وهي استراتيجية ينبغي أن توفر مزيداً من الموارد، لا أن تقلصها، بغية مواجهة الجماعات الإجرامية التي صانت نفوذ إيران لفترة طويلة جداً.
من دون هكذا استراتيجية لن يتمكن الشرق الأوسط من تعزيز المكاسب العسكرية المبهرة ضد إيران. فقادة طهران اليوم يتحركون سلفاً لاستعادة قوتهم المفقودة. وقد أشار بعض التحليلات مثلاً في هذا الإطار إلى أن الجمهورية الإسلامية أسهمت في إثارة العنف الطائفي الذي اندلع في سوريا بشهر مارس (آذار) الماضي. ورغم إصدار طهران نفياً أجوف في هذا الخصوص، فإنها تستفيد من ضعف الحكومة القائمة في دمشق. لقد سنحت اليوم فرصة حقيقية لوضع الشرق الأوسط على مسار مختلف. لكن إن قامت الولايات المتحدة بإهدار فرصتها لقيادة هذا المسار، فإن تلك الفرصة لن تتكرر لأجيال.
ضربة قاضية
في غضون عام ونصف العام تمكنت إسرائيل من إركاع عديد من حلفاء طهران. إذ فقدت أطراف رئيسة مدعومة من إيران قدرتها على الاستمرار بحملات مسلحة مضادة جدية والسيطرة على حكومات ضعيفة، حتى في منطقة الشرق الأوسط نفسها. إذ مع حلول أغسطس (آب) 2024 أعلن جيش الدفاع الإسرائيلي أنه “فكك” 22 كتيبة من أصل الكتائب الـ24 التي تملكها “حماس”، وقتل أكثر من نصف قادة الحركة العسكريين وقضى على أكثر من 17 ألف عنصر من مقاتليها. كما قام الجيش الإسرائيلي بتحييد كثير من بنية أنفاق “حماس” تحت الأرض في غزة، وعديد من المرافق التي استخدمتها هذه الجماعة الإرهابية لتصنيع المسيرات والصواريخ وغيرها من الذخائر. وقد جاء استعداد “حماس” للموافقة على وقف إطلاق نار بعدة مراحل في يناير (كانون الثاني) ليعكس حالتها المتردية. إذ إن قادة الحركة يدركون أن بقاء “حماس” اليوم بات مرهوناً بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية.
وفي موازاة ذلك جرت تصفية قيادة “حزب الله”، شريك إيران الأساسي في لبنان. فالغارات الإسرائيلية دمرت أكثر من 70 في المئة من صواريخ الحزب الإستراتيجية بعيدة المدى، والصواريخ المضادة للطائرات والسفن، وقاذفات الصواريخ قصيرة المدى. وفي حركة مثلت اعترافاً بتضعضع “حزب الله”، قامت طهران بتوجيه أعضاء قيادة الحزب الباقين على قيد الحياة للموافقة على وقف إطلاق نار في نوفمبر (تشرين الثاني) بشروط مواتية لإسرائيل. وقد أجبر “حزب الله” على فك ارتباط حملته العسكرية ضد إسرائيل بالحرب في غزة، وذاك مثل ضربة كبيرة لجهود إيران الهادفة لتطويق إسرائيل. وفي فبراير (شباط) توصل لبنان إلى تشكيل حكومة جديدة قامت، وللمرة الأولى منذ عقود، بتهميش السياسيين المتحالفين مع “حزب الله”.
وفي السياق عينه، فشلت إيران في حماية الأسد، رئيس الدولة الوحيد في الشرق الأوسط الذي يمكن أن تعده طهران شريكاً استراتيجياً. وكانت إيران إثر اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، استثمرت ما يتراوح بين 30 و50 مليار دولار لدعم وتعزيز نظام الأسد، فأرسلت ضباطاً إيرانيين ومقاتلين أجانب إلى سوريا، وأمنت مقداراً كبيراً من وسائل الدعم اللوجستية والعملانية. وفي المقابل، سمح الأسد لإيران باستخدام بلاده لبناء شبكتها الإقليمية، ومنحها السيطرة على مستودعات أسلحة ومطارات، كما أتاح لها نقل الأموال والعتاد المخصصة لوكلاء إيران عبر الأراضي والأجواء السورية. على أن تحالف تبادل المنفعة هذا بين طهران ودمشق انتهى فجأة في ديسمبر، بعد أن قام ائتلاف مناهض للأسد تقوده جماعة “هيئة تحرير الشام” المسلحة، بشن حملة سريعة على دمشق، فسيطر على العاصمة السورية من دون مقاومة تذكر.
وأخيراً في هذا الإطار فإن استراتيجية طهران القائمة على ممارسة السلطة في الخارج لحماية النظام الإيراني في الداخل فشلت في ردع إسرائيل عن ضرب الأراضي الإيرانية مرتين عام 2024. وقد أدى قيام إسرائيل بتدمير الدفاعات الجوية الاستراتيجية الإيرانية، وضربها لمنشآت الصناعة الدفاعية في إيران إلى كشف برنامج الجمهورية الإسلامية النووي، وإلى الإضرار جدياً بقدرات إيران على تصنيع الأسلحة التقليدية. أما الأكثر أهمية في هذا السياق فتمثل بإسهام عمليات إسرائيل في تخفيض حاجز الخوف من توجيه الضربات داخل الأراضي الإيرانية. إذ في أبريل (نيسان) 2024، إثر مقتل اثنين من كبار الجنرالات الإيرانيين في دمشق بهجوم إسرائيلي، ردت إيران على إسرائيل بهجوم بالصواريخ والمسيرات على الأراضي الإسرائيلية. إلا أن شبكة دفاع منسقة ومتعددة الأطراف قادتها الولايات المتحدة، وضمت قدرات عسكرية إسرائيلية وعربية وأوروبية، اعترضت تقريباً جميع صواريخ الكروز والمسيرات الإيرانية حتى قبل وصولها إلى المجال الجوي الإسرائيلي. بعدها، وفي أكتوبر الماضي، قامت إسرائيل وبمساعدة من الولايات المتحدة، بالدفاع عن نفسها على نحو فعال ضد وابل إيراني أكثر تنسيقاً ضم أكثر من 180 صاروخاً باليستياً. وقد أظهرت تلك الأحداث والوقائع إمكانية إحباط الهجمات التقليدية الإيرانية، وإمكانية إقناع دول الجوار في الانضمام إلى شبكة دفاع منسق بمواجهة العدوانية الإيرانية.
على أهبة الاستعداد
لقد قامت إسرائيل من خلال العمليات الميدانية بتقويض قوة إيران إلى حد كبير. إلا أن المرحلة الثانية في الحرب، المرحلة التي تلي العمليات الميدانية والتي تسمى وفق العقيدة العسكرية الأميركية “مرحلة توطيد الاستقرار”، لا تقل أهمية عن العمليات الحربية. إذ لتلافي مزيد من دورات العنف، وحرمان الجهات المغرضة من فرص الاستفادة من ارتباك الوضع بعد النزاع، ينبغي من مرحلة توطيد الاستقرار أن تنطوي على جهود لإعادة إرساء الأمن يمكن للسكان المحليين الوثوق بها، وعلى مشاريع لتأمين الخدمات الحيوية كالكهرباء والصرف الصحي، وتدابير لوقف التدهور الاقتصادي إثر الحرب، ومبادرات لمساعدة الحكومات الجديدة الناشئة (بعد النزاع) على إعادة بناء مجتمعاتها. وهذه المرحلة من الحرب، التي تعد مرحلة سياسية بطبيعتها، لا يمكن أن تتولاها قوات عسكرية نظامية وحدها. بل يجب أن ينضم للعسكريين بهذه المهمة دبلوماسيون وخبراء تقنيون للتعامل مع مراحل ما بعد النزاع، وقادة محليون، وفاعلون في المجتمع المدني، وذلك حتى مع استمرار بعض المناوشات.
الشرق الأوسط اليوم مستعد لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي. فالقادة الجدد في بيروت ودمشق يعملون بالفعل على إخراج بلديهم من شبكة تأثير إيران في الأمن والسياسة. إذ في تحد مباشر لـ”حزب الله”، قام الرئيس اللبناني جوزاف عون الذي كان قائداً للجيش ونُصب أخيراً رئيساً للبنان، بالدعوة علناً إلى نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة التي تنشط من خارج سلطة الدولة. ومنح الجيش اللبناني تفويضاً للانتشار في جنوب البلاد واستكمال نزع سلاح “حزب الله”. الأمم المتحدة من جهتها ما فتئت منذ عام 2006 تدعو إلى نزع السلاح هذا. لكن تلك الدعوة لم تحظ بفرصة فعلية للتحقق إلا الآن، وذلك نظراً الإضعاف الكبير الذي أصاب “حزب الله”، وللإرادة السياسية الجديدة في بيروت، والرقابة العسكرية الأميركية المباشرة.
أما في سوريا، فيواجه زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع، شبكات تجارة أسلحة ومخدرات خارجة على القانون تابعة لإيران وتنشط عند الحدود اللبنانية، وهو تجرأ واتهم إيران بتأجيج الاضطرابات في المنطقة. وقد قامت حكومته المؤقتة بعقد حوار وطني لرسم مستقبل سوريا، كما وقعت اتفاقيات اندماج مع فصائل مسلحة مختلفة، وتصرفت بناءً على معلومات استخباراتية مقدمة من الولايات المتحدة لإحباط مؤامرات وعمليات وضعها تنظيم “داعش”. ورغم قلق المسؤولين الأميركيين من صلات “هيئة تحرير الشام” السابقة بتنظيم “القاعدة”، فإن تلك الجهود المبكرة التي بذلها الشرع تعكس ميلاً نحو الاستيعاب السياسي والتعاون الأمني، وذاك ميل إن توطد يمكن أن يشكل درعاً واقية ضد التدخل الإيراني الذي يتغذى من الانقسامات الطائفية والبؤس الاقتصادي. لقد بدأ اللبنانيون والسوريون الذين أحسوا بتراخي القبضة الإيرانية، يتطلعون إلى حكومتي بلديهم لتلقي المساعدة في إعادة بناء حيواتهم، بدل التطلع إلى الجماعات غير الحكومية.
بدأ قادة طهران فعلاً بالتحرك لاسترداد قوتهم المفقودة
لكن من دون المساعدة والمشاركة الأجنبية، وفي غياب أي رؤية شاملة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإن المجتمعات المنهكة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ولتدبير شؤون عيشها اليومية، ستضطر للاعتماد على شبكات تعمل خارج أطر أجهزة الدولة، بما في ذلك الشبكات غير المشروعة. وذاك أمر سيضعف حكوماتهم. وقد لاحظ القادة الإيرانيون في هذا السياق موجة القادة الوطنيين الجدد في المنطقة غير الراغبين في سلوك وجهتهم (الوجهة الإيرانية)، كما أنهم يدركون أيضاً أن كثيراً من الناس العاديين في هذه المنطقة يتوقون للتحرر من بلطجة “المحور” (محور المقاومة). لكن إيران تبقى مصممة تماماً على استعادة نفوذها الإقليمي. ففي خطاب ألقاه في ديسمبر أحد كبار جنرالات النظام، بهروز إسباتي، وكشف فيه عن نية طهران تجنيد مسلحين جدد في سوريا، قال الرجل إن بلاده قد تنجح تدريجياً في إعادة تنشيط “طبقات النفوذ الاجتماعية” العميقة التي كانت قد طورتها بفترة وجود الأسد في السلطة.
يمثل إسقاط الأسد فرصة تاريخية لوضع سوريا على مسار الاستقرار، حيث تتوقف عن أن تكون قاعدة تمارس فيها إيران سلطتها. لكن مهما كان الشرع مستعداً للتخلص من حقبة النفوذ الإيراني فإنه لن ينجح بهذه المهمة إن لم يؤمن تخفيف العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة. وهو، من دون دعم خارجي وازن ومشروط بتحقيق معايير واقعية للحكم، لن يتمكن من معالجة الأزمة الانسانية والاقتصادية في سوريا، ولن يتمكن بالتالي من معالجة حالة عدم الاستقرار التي تخدم مصالح إيران.
مناصرو الحوثي يتظاهرون ضد استراتيجية إسرائيل في غزة، صنعاء، اليمن، مارس 2025 (رويترز)
مناصرو الحوثي يتظاهرون ضد استراتيجية إسرائيل في غزة، صنعاء، اليمن، مارس 2025 (رويترز)
ولا يزال لإيران أيضاً موطئ قدم في المنطقة لا يستهان به. فـ”حماس”، رغم تدهور موقعها لم تبد أي مؤشر إلى قبولها الهزيمة، وقادتها لا يتفاوضون على مستقبل يتخلون فيه عن حكم غزة. وتستفيد “حماس” راهناً من شح المصادر العامة، فتقوم بتحويل مسار المعونات الإنسانية وتتحكم بتوزيعها. وهي تقوم بتثبيت نفسها ضمن فراغ الحكم الحاصل في غزة، وتدعي الفضل لنفسها في جهود التلقيح ضد شلل الأطفال التي تولتها الأمم المتحدة بدعم من إسرائيل والولايات المتحدة سنة 2024. كما أنها تتعاون مع شبكات إجرامية لابتزاز المدنيين وتنظيم عراضات منسقة خلال عمليات إطلاق سراح الرهائن بغية إظهار قوتها المستمرة. وتشير التقديرات إلى أن “حماس” جندت منذ السابع من أكتوبر 2023، أكثر من 10 آلاف عنصر جديد، ويجيد ممولو الحركة سبل التهرب من نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة، ويستفيدون من الثغرات الموجودة فيه، فيديرون عبر ذلك محفظة استثمار دولية قيمتها مئات ملايين الدولارات. أما قادة إسرائيل من جهتهم، فلم يقوموا ببلورة أي رؤية لحكم فلسطيني من دون “حماس” في غزة، كما أن الاقتراح الذي قدمته الدول العربية خلال قمة القاهرة في مارس (آذار) لم يطالب بتفكيك “حماس”.
شرق أوسط جديد
لقد جاءت ضربات إسرائيل على “حزب الله” لتترك هذه الجماعة في حالة ضعف شديد. لكن قادة بيروت الجدد بدورهم ورثوا دولة ضعيفة ومتهاوية، وهم يحتاجون للمساعدة كي يفككوا “حزب الله” على نحو كامل. بيد أن إدارة ترمب، وبعد فترة وجيزة من تنصيب جوزاف عون في الرئاسة في يناير، قامت بتجميد مساعدات أمنية للقوات المسلحة اللبنانية بقيمة عشرات ملايين الدولارات. كما أن الولايات المتحدة (والعديد من اللاعبين الدوليين الآخرين) وحتى قبل السابع من أكتوبر، لم تقدم دعماً للبنان يتجاوز المساعدات الإنسانية المباشرة، وذلك نظراً لسيطرة “حزب الله” على مؤسسات الدولة. ورغم حصول تغيير شامل في بيروت لم تعدل واشنطن نهجها المتعلق بالمساعدات هذا. وقد أشار أمين عام “حزب الله” الجديد، نعيم قاسم، من جهته إلى أنه يتوقع فشل جهود الإصلاح، رافضاً في السياق دعوة عون لنزع السلاح. وقد يقوم “حزب الله”، إن لم تتمكن الحكومة اللبنانية بسرعة من تقديم مساعدات الإغاثة الاقتصادية وإعادة الإعمار، باختطاف الدولة مرة أخرى عبر الفوز بمقاعد تشريعية في الانتخابات البرلمانية بالسنة المقبلة. إذ إن هذا الحزب يعمل فعلاً على إعادة التسلح وتجديد تمويله وتعزيز دعمه الشعبي، فيقدم تعويضات بآلاف الدولارات للبنانيين الذين دمرت بيوتهم بفعل الحملة العسكرية الإسرائيلية.
راعي بقر وحيد
لكي تستعيد قوتها ستعمل إيران أيضاً على إضفاء مزيد من الطابع المؤسساتي على نفوذها في العراق واليمن. فالسياسة في كل من بغداد وصنعاء لا تزال شديدة التأثر بطهران، وتقوم الجماعات المسلحة غير الحكومية التابعة لإيران باستخدام هذين البلدين لإظهار مدى قوة طهران وتمدد نفوذها. واليوم مع تراجع نفوذ “حزب الله” (في لبنان)، يلعب الحوثيون في اليمن دورهم كضامنين لتجدد سياسة إيران، وهم يربطون الاستفزازات التي يقومون بها بحملة إسرائيل العسكرية في غزة. وقد قام الحوثيون منذ السابع من أكتوبر بتحسين تكتيكاتهم وقدراتهم الصاروخية وطوروا حضوراً ذكياً في إطار العلاقات العامة. وهم بموازاة ذلك يواصلون حكم صنعاء، وطباعة الأموال، وجمع الضرائب، وتحويل المساعدات الإنسانية وفق مصالحهم واستخدامها لأغراضهم الخاصة. ولم تتمكن الضربات متعددة الأطراف بقيادة الولايات المتحدة على أهداف عسكرية حوثية، ولا الهجمات الإسرائيلية على الموانئ والبنية التحتية للطاقة، من إيقاف هجمات الحوثيين على حركة الملاحة في البحر الأحمر إلى أن جرى تطبيق وقف نار في غزة بشهر يناير المنصرم. كما أن تلك الهجمات ضد الحوثيين فشلت إلى حد كبير في خلق فرص لقيادة يمنية جديدة، ولم تتمكن من وقف مظاهر تدفق السلاح وأنشطة التدريب والدعم التقني التي تؤمنها إيران لليمن.
لقد أعاد ترمب تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، وذاك تصنيف كان سلفه (بايدن) قد رفعه عام 2021. لكن هذا لن يضر بقادة الحوثيين الذين لا يسافرون إلى الخارج ولا يملكون حسابات مصرفية دولية. على أن التصنيف المذكور سيزيد من إضعاف الاقتصاد اليمني المدمر أصلاً ويضر بمصالح المدنيين الذين يعانون سلفاً من أعباء الحرب الأهلية منذ أكثر من عقد سنوات، مما سيخلق لإيران فرصاً لتمديد نفوذها. ففي العراق كانت الجهود الأميركية والإسرائيلية لتقويض النفوذ الإيراني محدودة بسبب دور العراق في استضافة القوات الأميركية لمحاربة “داعش”. وتوقعاً للضغوط الأميركية والإسرائيلية، تقوم الميليشيات المدعومة من إيران هناك بإضفاء طامع مؤسساتي على مصالحها في بغداد وترسيخ حضورها داخل النظام السياسي العراقي والاستعانة بمؤسسات الدولة لضمان استمرار شبكة التهديد الإيرانية. وقد قام رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بتبني بعض السياسات المضرة بطهران، منها منع المقاتلين المدعومين من إيران من السفر إلى سوريا، وإظهار نية بالاستمرار في استضافة القوات الأميركية بالعراق. إلا أن واشنطن لم تبذل أي محاولة لمكافأة تلك الجهود، بل قامت بدل ذلك بتجميد المساعدات للمناطق التي أرهبها تنظيم “داعش”، وعلقت برامج كانت تدعم النمو الاقتصادي العراقي. وفي مارس أنهت إدارة ترمب أيضاً الإعفاء من العقوبات الذي سمح للعراق بشراء الكهرباء من إيران، وهو القرار الذي سيؤكد الهشاشة التي تعاني منها سلفاً الشبكة الكهربائية العراقية قبيل أشهر الصيف الحارة، وسيترك السوداني في موقف أقل قوة.
يتصرف معظم المسؤولين الأميركيين اليوم انطلاقاً من الاقتناع الجديد الذي يرى أن الوقت حان لاتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه طهران نظراً لبلوغ النظام الإيراني ذروة ضعفه. إذ إن ترمب وبعد وقت قصير من توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) الماضي، أصدر أمراً تنفيذياً يعيد اعتماد “حملة الضغوط القصوى” التي سبق وأطلقها لإنهاء التهديد النووي للنظام الإيراني و”تقييد برنامجه للصواريخ الباليستية، ووقف دعمه للجماعات الإرهابية”. وقد أعلن ترمب عن عدة حزمات جديدة من العقوبات الأميركية، وذاك يتضمن تدابير عقابية تستهدف برنامج المسيرات الإيراني وصادرات طهران النفطية والشبكات الإجرامية العابرة للحدود التي تزيد من قدرة وصول الإرهاب الذي ترعاه إيران. وكذلك استعارت إدارة ترمب صفحة من المنهج الإسرائيلي المعتمد لإضعاف القوة الإيرانية الممتدة، وذلك عبر المبادرة في شن حملة عسكرية ضد الحوثيين في اليمن، وتوسعة نطاق الضربات الأميركية التي كانت تشن سابقاً لاستهداف الأفراد والبنى التحتية العسكرية والمباني الحكومية.
بوسع العقوبات والضربات العسكرية أن تكون عناصر ضمن استراتيجية ناجحة، إلا أنها في اللحظة المواتية التي نمر بها الآن، لا تكفي بمفردها. فالولايات المتحدة تحتاج راهناً إلى سياسة المشاركة متعددة الأطراف بغية تقديم رؤية إيجابية لشرق أوسط متحرر من تأثيرات إيران الضارة. وفي هذا الإطار يبدو عدم مشاركة واشنطن بما يحصل في سوريا من أشد الأمور سطوعاً، وذلك رغم تعبير حكومة الشرع علناً ومراراً عن رغبتها بمواجهة النفوذ الإيراني، ومحاربة الإرهاب العابر للدول، والمحافظة على حدود آمنة مع إسرائيل. وإدراكاً لتلك الفرصة السانحة قام رؤساء الأردن وقطر والسعودية وتركيا، إضافة إلى وفود أوروبية رفيعة المستوى، باللقاء فعلاً بقادة دمشق الجدد. فيما تبقى الولايات المتحدة عموماً في هذا السياق على الهامش الدبلوماسي. وهنا يمكن الكلام عن بعض المخاوف المشروعة. فالشرع لم يكشف عن حقيقته بعد. لكنه بحاجة إلى مزيد من الدعم الدولي المكثف كي لا يكون حكمه عرضة لعبث المفسدين. كما ينبغي منحه مجموعة معايير واقعية للأداء، بغية تحفيز الجهود المستمرة لتحقيق استقرار البلاد وتخفيف العقوبات الأميركية، فيتمكن الاقتصاد المشروع في سوريا من إعادة إنهاض نفسه.
وعندما تنخرط إدارة ترمب في تلك الجهود، تأتي في المقابل مقارباتها الأحادية القائمة على ردود الأفعال، مهددة بتقويض النتائج المستدامة. إذ إن ارتجالاتها الفوضوية المتعلقة بغزة، المتنوعة بين عروض “استملاك” الأراضي فيما يقوم طرف آخر باستيعاب ملايين المدنيين لإسكانهم، وبين الشروع بمفاوضات مباشرة مع “حماس”، تمثل افتراقاً حاداً عن الدبلوماسية الأميركية التي شهدناها طوال العام ونصف العام الماضيين، حين أعطى المسؤولون الأميركيون الأولوية لفكرة خلق نتيجة مستدامة (لحرب) غزة تعزز أمن إسرائيل وتلبي احتياجات المدنيين الفلسطينيين، وتبقي التنسيق والتشاور قائمين مع العرب جيران إسرائيل. وقد أسفر ذاك النهج في نهاية المطاف عن وقف إطلاق نار لعدة أسابيع سمح لرهائن إسرائيليين بالعودة إلى بيوتهم وبوصول المساعدات إلى سكان غزة. فيما من المرجح أن يؤدي النهج الراهن في المقابل إلى شلل في السياسة وسط موجة من المقترحات غير المنسقة وغير الواقعية ستخلق لـ”حماس” وإيران أرضاً خصبة لإعادة تنظيم الصفوف.
إيذاء النفس
رفض ترمب عند التعامل مع إيران نفسها حشد دعم دولي قبل الاتصال بالمرشد الأعلى علي خامنئي للشروع بالمفاوضات. وفي إغفاله حاجة التشاور مع الحلفاء والشركاء الإقليميين، كرر ترمب خطأ ارتكبته واشنطن عندما رتبت الاتفاق النووي مع إيران عام 2015. وقد أدى عدم التشاور مع إسرائيل والعواصم العربية آنذاك إلى توتر كبير، ولم يترك للصفقة العدد الكافي من المناصرين للدفاع عنها عندما قرر ترمب الانسحاب منها عام 2018. ويبدو الآن أن استراتيجية واشنطن تجاه طهران معقودة على فكرة أن استراتيجية الضغط المنسقة فقط مع إسرائيل يمكنها إجبار النظام في طهران على وقف أنشطته التي يعدها ضرورية لبقائه. بيد أن واشنطن لا يمكنها تدمير الاقتصاد الإيراني أو حتى تنفيذ ضربات عسكرية من دون تلقي دعم أوسع. فهي بحاجة للتعاون مع الصين، أكبر مستورد للنفط الإيراني، ومع دول الشرق الأوسط التي تستضيف القواعد والقوات الأميركية على أراضيها. كما تحتاج لدعم من العواصم الأوروبية في مجلس الأمن الدولي. ومن هذا التوافق الدولي الأوسع بشأن الطريقة الأكثر فعالية لعزل طهران، فإن النظام الإيراني سيستفيد من علاقاته مع بكين وموسكو لمقاومة أي جهود أميركية رامية لانتزاع تنازلات ذات مغذى.
وفي الإطار عينه تحتاج واشنطن إلى أن توضح بشكل دقيق كيف ستقوم بتخفيف العقوبات تجاه اللاعبين الذين يوقفون أنشطتهم التي كانت استدعت في الأصل فرض تلك العقوبات. لذا فإن إعادة النظر بالعقوبات المفروضة على سوريا ما بعد الأسد تشكل اليوم مهمة أكثر إلحاحاً، لكن على الحكومة الأميركية أيضاً أن تقوم بصياغة مسار إحياء اقتصادي مفيد لإيران نفسها، إن اتخذت إيران الخطوات اللازمة للحد من برنامجها النووي ووقف جهودها المزعزعة لاستقرار البلدان الأخرى.
على الولايات المتحدة أن تدعم استراتيجيتها الإقليمية بالموارد والخبرات المدنية حتى وهي تقوم بتشجيع الآخرين على تقاسم الأعباء. فالمساعدة والخبرات التقنية التي يقدمها المدنيون تشكل عناصر أساسية في عمليات وجهود تحقيق الاستقرار. لقد استثمرت الولايات المتحدة عقوداً من السنوات ومئات ملايين الدولارات بغية بناء هياكل بيروقراطية وخبرات وفيالق من العاملين، وذلك في إطار تأسيسها أنماط مبادرات التمويل الجماعي وبرامج المساعدات الذكية التي تسمح للبلدان في الخروج بنجاح من حالات النزاع. وتلك الأدوات والمهارات ستكون ذات أهمية كبرى في سياق تعزيز المكاسب ضد إيران. فالمجتمعات التي أنهكها العنف تسعى لإعادة البناء، إلا أن قادتها الجدد يفتقرون إلى الخبرات الضرورية في مجالات الحوكمة والبيروقراطية والاقتصاد لمواجهة التحديات الاستثنائية التي تعيشها المجتمعات بعد النزاعات. كما أن الجيوش النظامية في الشرق الأوسط بدورها غير مهيأة لمواجهة وتفكيك وإعادة استيعاب الجماعات المدعومة من إيران.
بيد أن غنى الولايات المتحدة بخبرات تحقيق الاستقرار يجري الآن تبديده فيما تقوم واشنطن على نحو ممنهج بإلغاء تمويل وتفكيك قواها العاملة المعتمدة على مساعداتها. فالوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي يبدو ترمب مصمماً على إنهائها، كانت تضم “مكتب المبادرات الانتقالية”، الهيئة المصممة لسد الفجوات في المساعدات الإنسانية ومشاريع التنمية. و”مكتب وزارة الخارجية لمراقبة النزاعات ولعمليات توطيد الاستقرار”، الممول من ميزانية مساعدات يحاول ترمب تجميدها، متخصص في مساعدة البلدان على التعافي من الدمار الذي سببته جماعات ميليشياوية مسلحة، وهو يستعين بـ”مستشارين في توطيد الاستقرار” ملتزمين ومستعدين للوجود في مناطق النزاعات.
لقد انبثقت فرصة حقيقية لوضع الشرق الأوسط على مسار مختلف
كما تخطط إدارة ترمب لإجراء تقليص كبير في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، وذلك في وقت يستوجب على الدبلوماسيين تولي مزيد من المسؤوليات في أعقاب التطورات العسكرية المهمة التي حصلت عام 2024. وقد قامت هذه الإدارة بتجميد المساعدات المخصصة لدعم تحقيق الاستقرار في العراق وسوريا واليمن في الوقت عينه الذي يمكن لتلك المساعدات المذكورة أن تحقق فوائد قصوى. كما قامت إدارة ترمب مؤقتاً بإيقاف جميع المساعدات العسكرية المخصصة للجيش اللبناني تزامناً مع التزام الحكومة اللبنانية بنزع سلاح “حزب الله”. وهي علقت التمويل الأمني لقوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية التي حافظت على تعاونها الأمني مع إسرائيل في الضفة الغربية لمواجهة قوة “حماس” هناك. إن كانت الولايات المتحدة تأمل بالفعل في تفكيك كامل لشبكة النفوذ الإقليمية الإيرانية، عليها القيام بتقديم المساعدات غير العسكرية تزامناً مع الضغط على (الشركاء) الآخرين لتقاسم الأعباء. وهي إن لم توسع استراتيجيتها ستتخلى عن أفضل الأدوات التي تملكها لدعم انبثاق لاعبين جدد وبديلين.
وأخيراً تحتاج الولايات المتحدة إلى تقديم ضمانات أوضح لشركائها الإقليميين بشأن التزاماتها الأمنية حتى وهي تطلب من شركائها الاستمرار بذاك النمط من التعاون الأمني متعدد الأطراف الذي أثبت نجاحه الكبير بمواجهة هجمات إيران الصاروخية الباليستية. فالولايات المتحدة زادت تموضعها العسكري في الشرق الأوسط على نحو بارز بعد السابع من أكتوبر. وذاك التموضع الأساسي المتمثل في الدعم الاستخباراتي والأسلحة والمشاركة الفعالة في الدفاع عن إسرائيل، ساعد الأخيرة على التركيز في استهداف شبكة التهديدات الإيرانية وتغيير المشهد الاستراتيجي في المنطقة على نحو دراماتيكي. وعلى قاعدة الدعم العسكري هذه أن تبقى في مكانها، فيما تحول المنطقة تركيزها نحو هدف تحقيق الاستقرار.
ومن أجل زيادة الضغط على الحوثيين إلى حده الأقصى على الولايات المتحدة أن تضع مشروع دعم ملموس ستكون مستعدة لتقديمه إلى الشعب اليمني في حال تخلى الحوثيون عن السلطة. وعليها أن تدخل شركاءها بفاعلية في حملتها العسكرية لاستعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر وأن تعلن بوضوح أيضاً عن استعدادها لدعم البلدان التي تهددها اعتداءات الحوثيين، مثل السعودية والإمارات. إن التعهد بالحفاظ على استعداد عسكري مرتفع على المدى المتوسط من شأنه أيضاً أن يعبر لطهران عن الموقف الحازم للولايات المتحدة وأن يطمئن القادة الإقليميين الآخرين في الخطوط الأمامية بمواجهة إيران. وفي العراق وسوريا، على واشنطن في الوقت الراهن الاحتفاظ بقوات على الأرض وتأكيد استعدادها لدعم مواطني البلدين. أما في لبنان، فستحتاج واشنطن إلى الحفاظ على الدور الرقابي النشط الذي يتولاه الجيش الأميركي في جهود نزع سلاح “حزب الله” ومنح قادة بيروت الجدد دعماً مباشراً إن قاموا بمزيد من الخطوات الإصلاحية.
إن الحفاظ على الوجود العسكري يمثل استثماراً ينبغي على الولايات المتحدة القيام به تزامناً مع ما يشهده الشرق الأوسط من تحولات وترتيبات أمنية جديدة ودعم شعبي للقادة الجدد. وعلى الولايات المتحدة أيضاً القيام بتخفيف العقوبات عن سوريا كلما حقق القادة الجدد في هذا البلد أهداف الحكم الرشيد، كما عليها زيادة الإعانات والمساعدة التقنية للمجتمعات الضعيفة، والمضي قدماً في تنظيم لقاءات الشركاء المحليين والدوليين لوضع رؤية ملموسة وواقعية لنظام إقليمي متحرر من الهيمنة الإيرانية. إن جهود طهران السابقة لزعزعة استقرار حكومات المنطقة وإخضاع شعوبها وتحدي المصالح الأميركية ونشر الإرهاب عبر الحدود نجحت فقط لأنها استهدفت دولاً سيئة الحكم وفاسدة وضعيفة سياسياً. من هنا فإن الهدف الأساسي لاستراتيجية تحقيق الاستقرار ينبغي أن يتمثل بدعم قيام حكومات أكثر استجابة وشفافية وتحتفظ بحقها في احتكار استخدام القوة، وقادرة على تحقيق الرخاء لشعوبها، ومستعدة لمواجهة النفوذ الإيراني. إذ على عكس عقود من التفكير التقليدي، فقد اتضح أن حملة عسكرية استثنائية يمكن أن تقوض مكانة إيران الإقليمية إلى حد كبير. والآن على الولايات المتحدة القيام بدورها المطلوب لقيادة جهود مدنية استثنائية مماثلة بغية تأبيد هذا التغيير.
دانا سترول مديرة الأبحاث في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” وقد تولت مهام نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لقضايا الشرق الأوسط بين فبراير 2021 وفبراير 2024.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 2 أبريل، 2025