ملخص
“رسائل من السجن”، كتاب هو بمثابة وثيقة استثنائية متصلة برسائل كتبها العقيد السوري عدنان المالكي (1919–1955) أثناء اعتقاله إبان حكم أديب الشيشكلي لسوريا، بتهمة التحضير للانقلاب عليه، وصدر حديثاً عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو.
تضيء الرسائل على ملامح من هذه الشخصية المفصلية في تاريخ سوريا المعاصر، وكتبها المالكي أثناء اعتقاله في سجن المزة اعتباراً من السادس من أبريل (نيسان) عام 1953، كما يرد في الرسالة الأولى من هذا الكتاب، بينما خلت الرسائل الأخرى من تواريخ كتابتها واستمر احتجاز العقيد لسبعة أشهر. وحين أفرج عنه أحيل إلى التقاعد، ليعود من ثم لمهماته بعد تنحي الرئيس أديب الشيشكلي عن الحكم في الـ25 من فبراير (شباط) عام 1954.
وفي ملابسات تناقل تلك الرسائل وتسريبها من سجن المزة، يشير المحامي رياض المالكي (شقيق العقيد وشريكه في تجربة السجن) “كان الضابط الركن المجاز، بحكم الشعبية التي له في أوساط العسكريين والتي استطاع الحصول عليها بسرعة في أوساط السجانين أيضاً، توصل إلى تنظيم شبكة للمراسلة بين معظم المعتقلين داخل السجن. وامتد نشاط الشبكة إلى خارج السجن حيث كانت الرسائل تأخذ طريقها إلى ذويه، ومنهم إليه وإلى أخيه. وأفاد بعض المعتقلين من هذه الوسيلة وتمكنوا بواسطتها من إيصال الرسائل الى أسرهم، حتى لو كانت تقطن بعيداً من العاصمة وفي أقصى الشمال. وكان أهل الضابط وأخيه يوافونهما بأخبار البلاد وأحوالها السياسية، ويرسلون إليهما أحياناً بعض المنشورات الموزعة في أوساط الجماهير وفي صفوف طلاب الجامعة، والتي يجدر بمن يود الإحاطة بأحوال البلد، في تلك الحقبة المظلمة القاسية، الرجوع إليها واستخلاص العبرة منها والتأمل في تبدل المفاهيم، وتقلب بعض البشر، وحتى العقائديين منهم”.
وتتبدى هذه الرسائل كقطعة من التاريخ، أو من الحنين إلى الآمال العريضة والمترامية، كما أنها درس في الصمود والنقاء، إذ يقول العقيد في واحدة منها “لا يمكننا التنازل عن مبادئنا ولو أعطونا رتب الدنيا ومال العالم كله”. وقد كتبها جميعاً إلى والدته، ساعياً في ملمح من ملامحها إلى طمأنتها عليه وأخيه رياض، على رغم تعرض هذا الأخير لتعذيب وحشي، إذ يقول في الرسالة السادسة، “قبلاتي الوافرة لأياديك الطاهرة ولأيادي سيدي الوالد المعظم ولوجنات الأشقاء مقرونة بالإعجاب المستديم بمثاليتكم النادرة وبجرأتكم وإيمانكم مما يجعلنا دائماً أقوياء في أعمالنا وتصاريحنا مخلصين للوطن التعيس الذي هو بأشد الحاجة لعائلات مثلكم تغذي أبناءها الروح السامية لرفع شأنه.
وأما بعد فإنني أوجه إليكم عتاباً صغيراً كما ألوم نفسي في نفس الوقت، وأعاتبكم لأنكم شغلتُم بالَكُم على الحبيب رياض بينما أكدت لكم بأنه بتمام الصحة وبأن مرحه يدهشني حيث لم أكن أعرفه مرحاً لهذه الغاية وإذا كان لم يرسل لكم كتابه فلا شك لأنه لم يكن يفكر بأنكم أصبحتم طماعين. والحق عليّ لأنني أصبحت أكتب إليكم أكثر من كتاب في الأسبوع الواحد ولذلك ضاربت على رياض. وعلى كلٍّ إنني لست نادماً على ذلك فسأتابع تحاريري كلما سنحت الفرصة مهما كثُر عددها ولكن إياكم أن تشغلوا بالكم إذا تأخر أحدنا عن ذلك، وأقسم لك بأن رياض يتمتع بصحة جيدة جداً وأنني أسمع ضحكاته ونوادره طيلة النهار وربك حميد أن مدير السجن المعروف بغلاظته أظهر له العطف من أول يوم من دخوله السجن وهما متفاهمان تماماً وهو غير حردان وغير منرفز مطلقاً والرقابة طبيعية ولا يهمه شيء سوى خدمة الوطن وراحتكم، وأقسم لكم بأن كل شكوككم في غير محلها تماماً. لقد أعجبتني الكلمة المأثورة التي قرأتموها في جريدة ’الزمان‘ وهي الحقيقة بعينها، وإذا كنا نضحك دائماً وغير مهتمين بالسجن فلإيماننا القوي بأن المستقبل لنا ومن زرع يحصد وإليكم هذا البيت من الشعر:
تهون علينا في المعالي نفوسنا / ومن يخطب الحسناء لن يغلها المهر”.
حزب البعث السوري… يتغير أم يتلون ليكسب الخارج؟
ولا يكتفي الكتاب بالرسائل فقط، بل يقودنا إلى عالم العقيد المالكي ما بعد إطلاق سراحه، وما استقصاه الروائي زياد عبدالله في مقدمته المطولة “العقيد السوري المغدور: الوقائع والمنعطفات”، مسلطاً الضوء على عوالمه وملابسات اغتياله، والمنعطف الذي شكّله هذا الاغتيال، وليحتشد الكتاب بالتواريخ والوقائع، والمراجع والمذكرات والشهادات والصور الفوتوغرافية المتصلة بالعقيد المالكي واغتياله.
حملت المقدمة بداية “سرداً متخيلاً لوقائع حقيقية” عبر إعادة سرد اليومين الأخيرين (21–22 أبريل (نيسان) 1955) من حياة العقيد بأسلوب سردي شديد التوثيق، ولتغوص بعدئذ عميقاً في شخصية المالكي ومشروعه في إبعاد الجيش السوري من الحزبية وتبعات اغتياله، وليختم ذلك في البحث في أسباب اعتقاله (سبب هذه الرسائل) وفق روايتَي رياض المالكي والصحافي البريطاني باتريك سيل.
ويُذكر أن كتاب “رسائل من السجن” هو الأول من سلسلة “أرشيف أوكسجين” التي أطلقها المحترف لـ”تُعنى بالذاكرة، وتناهض النسيان والتغييب والإخفاء، متخذة من الأرشيف منطلقاً نحو اختبار التواريخ والوقائع والذكريات، وفق إملاءات الحاضر والمستقبل، وربما جراء الحنين”.