تعالوا إلى الطاولة.. وإلا!
في لحظة كان يُنتظر فيها خفض التصعيد، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يكتب عنوانا مختلفا: “السلام، ولكن تحت النار”. وهو ما يعادل بالصيغة الإيرانية “تجرع السم”!
فجرًا، شنّت قاذفات أميركية غارات خاطفة دمّرت ثلاثا من أبرز المنشآت النووية الإيرانية – فوردو، نطنز، وأصفهان – وأعقب ذلك خطاب لم يتجاوز دقائق قال فيه ترامب لإيران “اصنعوا السلام.. وإلا فالقادم سيكون أعظم.”
هذه الضربات، التي تأتي بعد أسابيع من التوتر والتصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، تمثّل تحوّلا نوعيا في قواعد الاشتباك الإقليمي، ليس فقط لجهة الأهداف، بل لجهة الخطاب الأميركي نفسه، الذي نقل لغة الردع إلى صيغة تفاوض مُحاطة بالدخان.
◄ ما لم يظهر صوت دبلوماسي عقلاني، مدعوم بإرادة دولية حقيقية، فإن العرض الأميركي بـ”السلام تحت التهديد”، قد يتحوّل إلى “حرب بلا نهاية”.. والعرب، كالعادة، في قلب الحدث لا على هامشه
ترامب لم يُخفِ هدفه. الرسالة المعلنة: نحن لا نستهدف إيران كدولة، بل مشروعها النووي الذي يُهدّد المنطقة والعالم. لكن الرسالة الأعمق كانت تُقال بلغة أكثر خشونة: إما أن تأتوا إلى الطاولة، أو نُعيدكم إلى ما قبل تخصيب اليورانيوم.
والأدهى أن هذه المعادلة، التي تقوم على عرض السلام ضمن مهلة مغلّفة بالتهديد، تحوّل طاولة التفاوض إلى ملحق للانتصار العسكري لا منصة لحوار متكافئ. وهذا يثير سؤالا أخلاقيا: ما قيمة السلام إذا كان يُصاغ من موقع تفوّق ناري، ولا يمنح الطرف الآخر سوى خيارين: الانصياع أو الإبادة السياسية؟
لم يكن الهدف من الضربات إيرانيا فقط. داخليا، يبحث ترامب عن صورة القائد الحاسم في موسم انتخابي ساخن، خاصة في ظل انقسام داخلي عميق. سياسيا، يريد أن يرسّخ أن واشنطن لا تنتظر تل أبيب لتدافع عن نفسها، بل تدافع عنها من تلقاء نفسها، كما قال أحد المسؤولين الأميركيين في تسريب لاحق.
أما خارجيا، فكان لا بد من منح إسرائيل ما وصفه نتنياهو بـ”الغطاء الكامل لتدمير المشروع النووي الإيراني”، خصوصا بعد أيام من تلميحه إلى “خيبة أمل من تباطؤ الحلفاء”.
من الجهة الأخرى، جاء الرد الإيراني محسوبا حتى الآن. فبينما وصفت طهران الهجمات بـ”العدوان الإجرامي وانتهاك القانون الدولي”، وأعلنت أنها “تحتفظ بجميع الخيارات”، فإن الرد الفعلي لا يزال في مساحة الغموض.
◄ لا أحد يعرف حتى الآن ما إذا كانت هذه الضربات بداية فصل جديد من التسوية، أم مقدّمة لسلسلة انفجارات إقليمية
ربما لأن إيران تعرف أنها إن ردّت بصورة صاروخية واسعة، فإنها تخاطر بإعطاء ذريعة لهجمات أوسع. وربما لأنها تريد أن تحتفظ بصورة “الضحية المستهدَفة بسلاح غير مشروع” في خطابها الدبلوماسي والإعلامي.
لكن الأهم أن إيران الآن تقف أمام أكبر اختبار إستراتيجي منذ اغتيال قاسم سليماني: هل تواصل اللعبة ذاتها – الردع عبر الوكلاء ونَفَس الاستنزاف – أم تعيد صياغة مشروعها الإقليمي بطريقة تحفظ “الهيبة دون التصعيد”؟
في خضم كل ذلك، برز موقف الدول العربية الكبرى، وخاصة السعودية، بشيء من الحذر: قلق بالغ، ودعوة إلى التهدئة وفتح قنوات دبلوماسية. وهو موقف يُفهم في ضوء الحسابات المعقدة: لا أحد في المنطقة يريد إيران نووية، لكن لا أحد يريد حربا شاملة، خاصة إذا فُرضت فجأة ومن دون تنسيق.
العراق، الذي يعرف معنى أن تُستخدم أراضيه كخط عبور لنيران الآخرين، حذّر من “عواقب تتجاوز الحدود”، داعيا إلى احترام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ السيادة.
وبينما تبنت الصين موقفا داعما لإيران وطرحت نفسها كوسيط دبلوماسي، اكتفت روسيا باتخاذ موقف أكثر براغماتية، وازنت فيه بين دعم إيران وتفادي التصعيد مع إسرائيل والغرب.
وفي الوقت ذاته، خرجت بيانات من كوبا وفنزويلا وتشيلي تندد بالضربة وتعتبرها “عدوانا على القانون الدولي”. في المقابل، اختارت إسرائيل إعلان “النصر الكامل”، معتبرة أن ترامب حقق لها ما وعدت به شعبها: تدمير البرنامج النووي الإيراني.
◄ الضربات، التي تأتي بعد أسابيع من التوتر والتصعيد المتبادل بين إسرائيل وإيران، تمثّل تحوّلا نوعيا في قواعد الاشتباك الإقليمي، ليس فقط لجهة الأهداف، بل لجهة الخطاب الأميركي نفسه
من الناحية التقنية، قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنه “لم يتم تسجيل أي زيادة في مستويات الإشعاع”، وهذا يعني أن الضربات كانت دقيقة، وربما “جرّبت سلاحا فعالا وموجّها”، بحسب محللين غربيين.
لكن الدقة لا تلغي الحقيقة؛ العالم الآن على حافة تصعيد قد لا يمكن ضبطه، خاصة إذا ردّت إيران عبر حزب الله أو الحوثيين أو شبكاتها في العراق. وهنا تكمن خطورة ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بـ”المنعطف الخطير على حافة الهاوية”.
هل هناك مخرج؟
قد يقول البعض إن ما فعله ترامب يُعيد إيران إلى طاولة التفاوض من موقع أضعف، لكن السؤال هو: هل يمكن لأي اتفاق يُصاغ تحت القصف أن يدوم؟ وهل تريد واشنطن فعلا تفاوضا، أم تسليما كاملا؟ وهل بات “السلام من خلال القوة” هو القاعدة في الشرق الأوسط، كما عبّر عنها نتنياهو بوضوح؟
لا أحد يعرف حتى الآن ما إذا كانت هذه الضربات بداية فصل جديد من التسوية، أم مقدّمة لسلسلة انفجارات إقليمية. لكن المؤكد أن المنطقة دخلت مرحلة لا تصلح فيها التحليلات الباردة، ولا تصمد فيها المعادلات القديمة.
وما لم يظهر صوت دبلوماسي عقلاني، مدعوم بإرادة دولية حقيقية، فإن العرض الأميركي بـ”السلام تحت التهديد”، قد يتحوّل إلى “حرب بلا نهاية”.. والعرب، كالعادة، في قلب الحدث لا على هامشه.