نشر الدكتور علي جواد الطاهر الحاصل على الدكتوراه في جامعة السوربون مقالاً بعنوان (البنيوية أعلى مراحل السوء في ترف نظرية الفن للفن) في مجلة العرب عدد سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 1988، وأعادت جريدة «الوطن» نشره في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2024، ذهب فيه إلى أنه في أعوام الستينات الميلادية المنصرمة، انطلاقاً من باريس، قامت الدنيا في أوروبا وأميركا ولم تقعد، وكذلك في الشرق على علم وغير علم، حول تبني البنيوية وتفرعاتها… متسائلاً: ماذا جرى وماذا جد؟ أصوات ترتفع بالجديد، ونهاجم البحث (الأكاديمي) السائد حيث خلا الجو في باريس من أندريه جيد ومورياك ومورو وغياب أساطين السوربون، فثارت ثورة بحثاً عن تميز جديد، هذا ينادي برواية جديدة (يعني ألن روب جرييه وناتالي ساروت) وذاك ينادي بطلاب جدد – كأنه يشير إلى ثورة الطلاب سنة 1968 معتبرين أنفسهم في موقع الأساتذة! – كما عبّر عن ذلك بيار دوشين في روايته (الموت حباً) وقد تزوج الطالب ذو السبعة عشر عاماً أستاذته الثلاثينية، وآخر يطالب بسوربون جديدة ليست سوربوناً بتقاليدها الأكاديمية العريقة، التي درس الطاهر في أروقتها بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، على يدي أبرع الأكاديميين المستشرقين (ريجيس بلاشير في أطاريحه عن القرآن الكريم وشعر العرب الأقدمين – المتنبي خاصة – وشارل بيلا الذي لم يلفت نظره في مجمل التراث العربي سوى الجاحظ بأطروحته اللافتة عنه).
ويواصل الطاهر تساؤله النقدي الثقافي:
«لم يسأل أحد من المتحمسين المبشرين بالبنيوية عن التاريخ القريب… فأين كانت الأسماء الأوائل من مؤسسيها وما خطبهم (كأنه يقصد ميخائيل باختين الروسي وتزفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا الفرنسيين من جذور بلغارية)؟ لمَ هاجر من هاجر من موسكو ولينينغراد وبراغ، ومنهم النقاد الشكلانيون الروس الذين نادوا بإفراغ الأدب من محتواه الاجتماعي تحت رعاية القيصر ومؤسساته، قبل انفجار ثورة 17 أكتوبر، بعدها برزت البنيوية التي قادها كلود ليفي شتراوس بدروسه الأنثروبولوجية (1908 – 2009)، مؤكداً أن البنيوية انطلقت من الوقوف على تأمل النص وتحليله، وهذا ما عمل عليه باختين (1895 – 1975) في تحليله البنيوي للخطاب الروائي الروسي، خاصة ديستوفسكي».
إذن، لماذا هذا التطرّف النقدي المطلق لها في باريس بعد ذلك بعقود، والتبشير بها نحو واشنطن مروراً بمغربنا العربي، حيث فُتن بها بعض نقّادها ومفكّريها وبغيرها من مناهج أدبية وفلسفية، افتتاناً سدّ منافذ تذوق المتلقّين المغاربة والمشارقة للنصوص الإبداعية، حداً جعل دكتور شكري محمد عيّاد – وهو أحد أبرز مفكري الأدب والنقد قديمه وحديثه – يكتب مقاله الأكاديمي الاحتجاجي المطوّل في أحد أوائل أعداد مجلة (فصول) المصرية بداية الثمانينات بعنوان (موقف من البنيوية)، وهو القارئ المتعمّق بالفرنسية وغيرها من مناهج النقد الأدبي الحديث.
علي جواد الطاهر
علي جواد الطاهر
في السياق نفسه، تساءل الطاهر قبل عيّاد متعجباً وكأن الوقوف النقدي على النص وتحليله لغويّاً وبلاغيّاً، وإعادة بنائه غير موجودة في نقدنا العربي القديم… الجرجاني في «دلائل الإعجاز»، والزمخشري في تفسيره القرآني الأدبي «الكشاف»، وحازم القرطاجني بعدهما في «مناهج البلغاء»، فهؤلاء كانوا بنيويين بمعنى من المعاني… هذا مع الإشارة إلى أن الطاهر في كتابه التعليمي الأكاديمي (مقدمة في النقد الأدبي الحديث) يحث تلامذته وقراءه على ضرورة الإلمام بالفكر الغربي، منتقداً اقتصار أقسام اللغة العربية وآدابها على تدريس طلابها مناهج قديمة جزئية، داعياً إلى الإفادة من فوائض التجارب العميقة والثرية في المناهج الغربية، بحيث يكون التثاقف الأدبي معها عن وعي دون تعجّل، وتأمّل دون استهلاك، واستيعاب دون جري وراء هذا «الموديل» النقدي أو ذاك، وصولاً إلى صياغة نظرية نقدية عربية.
من هنا جاء اشتغال الطاهر في تحليله النصوص الشعرية قديمها وحديثها، انطلاقاً من دراسة النص وفهم أبعاده ومراميه، آخذاً بأولوية النص في عمله النقدي، من ابن (حلّته) وأستاذه في دار المعلّمين العالية دكتور محمد مهدي البصير، حامل الدكتوراه في الأدب الفرنسي من سوربون أستاذه لوي ماسينيون وزملائه، فلطالما أكّد البصير في دروسه على إعطاء الأولوية لتحليل النص وتفكيك علاقاته الداخلية، قبل تمثّل هذا المنهج أو ذاك من مناهج النقد الأدبي الحديث، وهو ما جعل الطاهر يستجيب لتوجيه أستاذه في دراسة شعر الطغرائي، التي انطلق منها على يدي أستاذه ريجيس بلاشير في أطروحته الفرنسية للدكتوراه حول (الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي)، وقد خرج بنتائج بحثية مثيرة شجّعت عدداً من الأكاديميين والباحثين على دراسة تلك الفترة، التي أعقبها ما سُمّي «عصر الانحطاط»، وكان أستاذه الآخر شارل بيلا قد أوصاه في دراسة الطغرائي بالانطلاق من لاميّته الشعرية الشهيرة.
ومع ما عُرف عن منهج أسلوب الطاهر التأثري الانطباعي، فإنه لم يُبعده عن تحليله النصي، متأثراً بأستاذه مصطفى جواد في دروسه اللغوية والتحقيقية، محاولاً أن يختطّ لقلمه أسلوباً نقديّاً، موائماً بين قراءاته التراثية، وما تحصّل عليه في السوربون من علم ومعرفة، واستفاد من منهج بحث، دون أن يتناول هذا المنهج أو ذاك تناول المتبضّع من دكان هذا أو ذاك! فها هو يقف دارساً (اللوحة في الشوقيات) فيرى صور أحمد شوقي قد أوهنتها الأيام، لاستعانة شوقي بالمبالغة التي صرفته عن البلاغة، فلا يستوقفك من نظمه شعر له رواء، ولا تحسّ به ريًّا… إنما هو وصف نثري أقرب إلى الكليشيهات والفوتوغرافية منه برسم اللوحة، وإن وصف الطبيعة في شعره قد غلب عليه الجفاف، رغم أن الصفة الغالبة فيه هي التصوير، إلا أن تعلق شوقي بالماضي في حياته الشخصية، تعدّاه إلى حياته الاجتماعية، فإذا لوحاته غير متفاعلة مع الواقع المتغير خارج قصره الأنيق على ضفة نهر النيل، معللاً الطاهر ذلك بأن شوقي لم يُقدم على تصوير حياته والتعبير عن تجربته، خشية السخط الاجتماعي على سلوكه الشخصي بوصفه شاعر بلاط، لذلك حين يحاول وصف واقع الشعب المصري، يحاذر دون الوقوع في همومه وقضاياه، منصرفاً إلى وصف الماضي، فهو جنة ووقاء عن التورّط في أسئلة الحاضر… إن هذا التوقي هو ما جعل شوقي يعيش عزلة شخصية وهو يدرس في باريس، فإذا مسرحياته الشعرية التي كتبها تغدو قصائد مطوّلة، ما بعث فيها الحياة سوى صديقه سعيد عبده بإعادة كتابتها مسرحيّاً، وكأن شوقي لم يغشَ عروض المسرح الباريسي، التي غشيها طه حسين وهو يواصل دراساته الجامعية بين مونبلييه وباريس، فيأنس بها ويتفاعل معها، ولا يملّ متردداً عليها بعد ذلك في إجازاته، مستروحاً فصل الصيف والشتاء بين مشاهدها، كما جاء في كتاباته النقدية العديدة في بعض كتبه.
باختين
باختين
أما حين يؤكد الطاهر على انطباعيته وتأثره في نقده الأدبي، فلأن هذا يجعله يغوص على لآلئ بحار النصوص فيصطاد منها الأصيل ويترك الزائف، مستعيناً بعدّته التراثية والحديثة، المدجّجة بفنون الأدب وتيارات الفكر ومذاهب الفلسفة، التي انبسطت أمامه في دار المعلّمين العالية ببغداد، ثم في دار المعلمين بباريس، مستوعباً مناهجها النفسية والاجتماعية والتاريخية والأدبية، وهذا ما تبدّى واضحاً في كتابه (مقدمة في النقد الأدبي الحديث)، فلا يكون فقهه للفكر الغربي كفقه أهله، وهذا ما حفّزه – ذاتيّاً وموضوعيّاً – على أن يختطّ له (إجراء) نقديّاً تذوّقيّاً – نظريّاً وعمليّاً – في كتاباته النقدية، مستفيداً من فوائض تلك المناهج الحديثة، دون أن يطبقها حرفيّاً في دراسة النصوص الشعرية أو القصصية أو المسرحية – عراقيّاً وعربيّاً – فباتخاذه هذا (الإجراء) أصبحت له سيميائية أسلوبية في نقده تدل عليه، خاصة في مقالاته الأدبية، بوصفهما إبداعاً ثانياً تالياً على النص الأول محل التشريح النقدي، معبّراً فيهما عن تذوّقه الجمالي لما يقرأ من نصوص ويكتب من نقود… هذا ما نراه كذلك في كتابات طه حسين النقدية الانطباعية التأثرية، التي فُتن بها الطاهر أيّما افتتان، فالعميد هو من ترجم نظام الأثينيين وكتب عن قادة فكرهم، وتملى شعرهم، ودرس نقدهم، واستوعب ما استوعب من مناهج أسلافهم الأوروبيين، وما كان يستجد في ساحاتها الأدبية من فنون وآداب، أبلى في تحصيلها – خاصة الفرنسية – بلاءً حسناً، دون أن يرتهن لهذا المنهج أو ذاك، سوى ما جرّ عليه تمثّله للمنهج الديكارتي من مآزق في دراسة الشعر الجاهلي… والشأن التأثري الانطباعي نفسه مع عبد الفتاح كيليطو بلسانه المفلوق بين العربية (التراثية) والفرنسية (الحداثية)، حيث يستمتع قارئ كتاباته النقدية بـ«لذّة بارتية»! في قراءته النصوص العربية القديمة، دون اتّكاء ميكانيكي على هذا المنهج التفكيكي، أو تماهٍ استعراضي مع ذاك الألسني، وكأنه بذلك بدا متجاوباً مع دعوة علي جواد الطاهر المبكرة، في تجاوز مساوئ تبعات التقليد البنيوي الأعمى.