ملخص
نحن كعرب نتطلع إلى الجوار الإيراني والتركي حتى يصبحا صاحبي دور فاعل في الوصول إلى تسوية دائمة لقضية العرب العادلة التي لا تغيب عن الأذهان أبداً وأعني بها القضية الفلسطينية بكل تداعياتها وتطورات تاريخها والملابسات المحيطة بها.
مر إقليم الشرق الأوسط وشرق المتوسط ومنطقة الخليج العربي بظروف صعبة وغير مسبوقة أبرزت إلى حد كبير حجم الأزمات التي تعرضت لها في الفترة الأخيرة، فأصبحت مشكلة دولية كبيرة وليست مجرد أزمة إقليمية محدودة.
وإذا بدأنا المسلسل الدامي في المنطقة الذي يبدو في النهاية نتيجة متوقعة للاحتلال الإسرائيلي الغاشم للأراضي الفلسطينية، فسندرك على الفور أن السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 إنما هو نتيجة تلقائية وطبيعية لقهر ذلك الاحتلال للشعب الفلسطيني الصامد على المستويات كافة، مما أدى إلى اتساع دائرة العنف وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة في ظروفها الحالية، حيث تتابعت قوافل الشهداء في أفواج يومية تضم عشرات آلاف الأطفال والنساء والمدنيين الذين لا يحق قتالهم ولا يمكن نسيان المذابح التي تعرضوا لها والظروف الصعبة لحياة البشر التي يعانونها من دون مغيث إنساني أو دعم يصل إليهم من الأشقاء والأصدقاء على حد سواء.
وإذا كان وقف إطلاق النار في المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية الأخيرة يمكن أن ينعكس إيجاباً على الأوضاع المؤلمة في غزة، إلا أن التعنت الإسرائيلي وجبروت القوة الذي يمثله نموذج نتنياهو بخطاب الكراهية الذي يبثه صباح مساء خير دليل على استمرار المعاناة والبعد من شاطئ الأمان.
ولعلي أتأمل مع القارئ أوزان الدول وطبيعة التحولات التي جرت وتأثيرها في البورصة الإقليمية لأوزان بعض الأطراف ونرصد الشواهد التالية:
أولاً: إن إيران في المجمل تبدو خاسرة بما جرى لـ”حزب الله” في لبنان من جانب وما حدث في سوريا من جانب آخر، حيث فقدت طهران حليفاً تابعاً استمتعت بولائه طوال حكم عائلة الأسد، فضلاً عما قامت به إسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة الأميركية على نحو أنهت به إلى حد كبير مقومات المشروع النووي لإيران، فضلاً عن عشرات الشهداء من الصفوف الأولى للحياة السياسية والمواقع العسكرية والخبرات العلمية.
وهنا لا بد من أن نسجل اعترافاً ضمنياً بأن إيران قاومت وكان لها كثير من ردود الفعل القوية التي يصعب إنكارها، وأن الصواريخ والمسيّرات التي بعثت بها إلى إسرائيل أدخلت عشرات الألوف من سكانها إلى الملاجئ هرباً من الضربات الإيرانية، ولكن ذلك لا يقارن بالطبع بما قام به سلاح الجو الإسرائيلي من دك المعاقل الإيرانية وضرب أعصاب الحياة في عدد من المواقع المهمت اقتصادياً وعسكرياً داخل إيران.
وقام الرئيس الأميركي دونالد ترمب بدور العراب الأكبر للمواجهة الإيرانية- الإسرائيلية منذ بدايتها وتدخل شخصياً بصورة مباشرة في تفاصيل تطورها حتى خرج الطرفان الإيراني والإسرائيلي كل منهما مزهواً بانتصار ينسب له أو قدرة يزعم أنه سجلها على خصمه، والاجتهادات في كل الحالات مفتوحة ومساحة التطور الإعلامي تسمح باستيعاب كل وجهات النظر، خصوصاً أن المواجهات المسلحة لا تترك رابحاً ولكنها توزع الخسائر على الأطراف كافة.
وهنا يجب أن ندرك أن الإطاحة بالبرنامج النووي الإيراني ولو مرحلياً هو انتصار وهمي لنتنياهو يزهو به وقد يدفعه إلى الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة يعزز بها وضعه السياسي وموقعه في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ومهما قيل تعليقاً على هذه المواجهة العسكرية التي استمرت قرابة أسبوعين بين طهران وتل أبيب، فإننا يجب أن نسجل بأمانة أنه قد جرى خدش إسرائيل والتأثير في مسارها في ظل الظروف كافة، فإيران سجلت موقفاً لا يخلو من بطولة ولا يفتقد الشجاعة في مواجهة أكبر ترسانة عسكرية في المنطقة، إذ إن الدعم الأميركي لإسرائيل كان هو الفيصل الحقيقي في تلك الحرب، وهو المعيار الذي لا يمكن أن يناقشه أحد ويبدو مغموراً وسط الأحداث، إذ إنه للمرة الأولى يجري ضرب إسرائيل في العمق وإصابة أهداف داخلية على نحو غير مسبوق يؤكد لنا أن أسطورة الجيش الذي لا يقهر وأن الصنم الكبير الذي صنعناه عبر العقود الأخيرة ليس بالصلابة التي نتوهمها ولا بالقوة التي نتخيلها.
اجتماع استثنائي لدول الخليج وسط تصاعد الحرب على أبوابها
ثانياً: إذا كنا نتحدث الآن عن إيران الدولة الإسلامية واسعة الأرجاء طويلة التاريخ، فإننا نسجل عليها أخطاء عدة لا يمكن تجاوزها بدءاً بما نسميه تعدد الساحات وتنوع الأذرع التي حاربت بها خلال العقود الأربعة الأخيرة في دول الجوار وفرضت نفسها طرفاً في الصراعات الدامية والصدامات المتكررة التي بدأت بـ”حزب الله” في لبنان ووصلت إلى جماعة “أنصار الله الحوثيين” في اليمن مروراً بسوريا والعراق حتى أصبحت إيران هي الفزاعة التي يطرحها الغرب في مواجهة العرب والترك والكرد والقوميات الأخرى في غرب آسيا والجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي بل شمال أفريقيا أيضاً.
لقد أدت صناعة الأذرع التي انتهجتها إيران إلى فوضى شاملة ظهرت بداياتها منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وسقوط حكم الشاه في فبراير (شباط) عام 1979، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ سقطت إيران في خطئية كبيرة حين قامت بمحاولة ضرب أهداف أميركية في منطقة الخليج العربي واقتحمت المجال الجوي لدولة قطر، وحاولت أن تعيث في أرض الخليج الذي كثيراً ما تحمل أخطاء إيران وتجاوز عن سيئاتها معه وتدخلها في شؤونه، ومما زاد الطين بلة إقدام البرلمان الإيراني على استصدار قرار بإغلاق مضيق هرمز، ذلك الشريان التجاري والبحري المهم الذي تعبر منه 20 في المئة من ناقلات النفط في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ولا شك في أن إيران خسرت باستعدائها المشاعر الخليجية، لو لبعض الوقت، خلال تصرفاتها الأخيرة، خصوصاً أن دول الخليج والمشرق العربي ومصر وغيرها شاركت جميعاً في إدانة العدوان الإسرائيلي على إيران منذ بدايته وكان على طهران أن تسعى إلى كسب ود الأصدقاء بدلاً من أن تضيف دولاً إلى قائمة الخصوم ولو إلى حين.
لذلك فإنني أظن أن إيران خسرت كثيراً ولكنها كسبت فقط ذلك الرضا النسبي الموقت لرجل البيت الأبيض القوي دونالد ترمب الذي حاول أن ينسب إلى نفسه فضل إنهاء تلك الحرب بين طهران وتل أبيب، كما نسب من قبل إلى ذاته التهدئة في الموقف بين باكستان والهند، وأضيف إلى ذلك أنه هو الذي كرر في أكثر من حديث أن الولايات المتحدة الأميركية لا تسعى إلى الإطاحة بالنظام القائم في طهران ولكنها كانت تهدف فقط إلى القضاء على المشروع النووي الإيراني وإصابته بالعجز في الأقل في المستقبل.
ثالثاً: أصبح ملحوظاً أن إيران التي خسرت برنامجها النووي هي التي ربحت قبولاً مرحلياً باستمرار نظامها السياسي والكف عن تقويضه، ولا شك في أن إيران هي الحالة الأبرز والدولة الأهم في ذلك الصراع الذي انتهى، ولكننا لا نغفل جانب الأتراك برئاسة الحاكم المفضل لدى ترمب وأعني به رجب طيب أردوغان، واضعين في الاعتبار أن تركيا دولة أوروبية- آسيوية وبحر متوسطية وشرق أوسطية وعضو فاعل في حلف الأطلنطي وقوة لا يستهان بها في المنطقة مع كل من إسرائيل وإيران أيضاً وفي المعادلة عموماً، وخرجت تركيا أيضاً مما جرى رابحة بما فعلته في سوريا وما كسبته في الخليج إلى جانب الرضا الأميركي عن سياساتها في المنطقة.
إنني أظن أن موازين القوى توحي أن دول الخليج رابحة حتى الآن لأن إيران دولة صديقة تاريخياً ولكنها لا تخلو في علاقاتها من مخاوف لا يمكن إنكارها أو تجاهل وجودها، ونحن كعرب نتطلع إلى الجوار الإيراني والتركي حتى يصبحا صاحبي دور فاعل في الوصول إلى تسوية دائمة لقضية العرب العادلة التي لا تغيب عن الأذهان أبداً وأعني بها القضية الفلسطينية بكل تداعياتها وتطورات تاريخها والملابسات المحيطة بها.