ما نعيشه اليوم ليس فقط أزمة سلاح أو عدواناً خارجياً. إنه أزمة تصوّر للبنان: من يحكمه؟ من يحميه؟ ومن يتحدّث باسمه؟ واستمرار التهرّب من الإجابة لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الخراب.
مجدّداً، يتكرّر المشهد في جنوب لبنان: قصف إسرائيلي يعكّر أمان الجنوبيين القلق أصلاً، لمواقع يُقال إنها تابعة لـ”حزب الله”. خروقات إسرائيلية متكرّرة لوقف إطلاق النار منذ إعلانه قبل ستّة أشهر، حتى بات التوثيق للضحايا والدمار مجرّد حصيلة رقمية لا قيمة لها، بل تستخفّ بها إسرائيل التي باتت تؤدّب دولاً ومجموعات وأفراداً، من غزّة إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران.
لكن في الوقت عينه، لا يمكن إنكار ما تُظهره بعض المقاطع المصوّرة التي ترد من المناطق، التي تتعرّض للقصف الإسرائيلي، وتحديداً تلك التي توثّق انفجارات تُظهر ما يبدو أنها أسلحة أو ذخيرة تنفجر جرّاء القصف وهي ما تزال في مخازن قديمة أو حديثة ليس واضحاً، فلا أحد يعلن صراحة ما هذا الذي نراه يتطاير وينفجر!
“حزب الله” يكتفي بتحميل إسرائيل المسؤولية، والدولة اللبنانية تتعامل بإنكار وصمت، فيما يتخبّط الرأي العامّ اللبناني بتأويلات شتّى تزيد من انقسامه بشأن السلاح.
لا جدل في أن اسرائيل دولة معتدية تحتقر القوانين الدولية، لكنّها منظومة تُجيد الاستثمار في واقع مشوّه وتكشف أماكن ضعفه.
هذه المعضلة، التي تبدو عصيّة على أي حلّ جذري، تكشف هشاشة مزدوجة: هشاشة السيادة اللبنانية أمام العدوان الإسرائيلي المستمرّ، وهشاشة الدولة اللبنانية في مواجهة سلاح “حزب الله”، الذي يبقى خارج أي مساءلة فعلية تتجاوز الخطابات.
السلطة الجديدة… استمرار للتراخي
كان كثيرون يأملون أن يفتح انتخاب جوزاف عون رئيساً جديداً للجمهورية، وتكليف نوّاف سلام بتشكيل الحكومة، نافذة نحو إعادة تعريف دور الدولة. لكن حتى اللحظة، لا مؤشّرات توحي بوجود خطّة جادّة للتعامل مع الإشكالية المركزية التي تمسك بخيوط الانهيار اللبناني: سلاح “حزب الله”.
السلطة الجديدة، رغم خطابها المتقدّم في كثير من النواحي، ورغم مراهنات الداخل والخارج عليها، تبدو متردّدة، بل وأحياناً متواطئة بالصمت، في مقاربة المسألة الأمنية الجوهرية. يعلن العهد والحكومة أن لا سلاح خارج إطار الدولة، لكن لا أحد يطرح مساراً واقعياً لتوحيد قرار السلم والحرب، ولا أحد يخاطب اللبنانيين ولا المجتمع الدولي برؤية واضحة محدّدة بالزمن وبالتفاصيل، وكأن المطلوب فقط هو إدارة الأزمة لا مواجهتها، رغم أن كلّ الوقائع تُثبت أن هذه الإدارة لا تمنع الانفجار، بل تؤجّله مع كلفة أعلى.
يتكرّر السؤال: كيف يمكن لدولة أن تطالب العالم بحمايتها، فيما هي نفسها عاجزة عن ضبط سلاح يُخزّن في قلب قراها ومدنها، ويُستخدم في حروب إقليمية لا تمرّ عبر مؤسّساتها؟ بل كيف يُمكن للبنان أن يُعيد بناء ما تهدّم، اقتصاداً وبُنى تحتية، دون أن يثبت للعالم أنه قادر على احتكار أدوات القوّة الشرعية؟
لن يأتي الدعم الدولي المنتظر لإعادة إعمار الجنوب، أو لإنقاذ لبنان من الانهيار المالي ما دام سلاح “حزب الله” خارج أي إطار قانوني وطني. هذا ليس مجرّد اشتراط خارجي ثبّتته معادلة الهزيمة الكبرى التي مني بها “حزب الله” ولبنان بعد الحرب الأخيرة، بل منطق اقتصادي وسياسي أيضاً.
من سيستثمر أو يمنح مساعدات لبلد لا يستطيع أن يضمن أمنه، ولا يملك قراره؟
وإذا لم تقم الدولة اللبنانية، برئاساتها ومؤسّساتها الجديدة، بوضع خارطة طريق جدّية لمعالجة مسألة السلاح، فإن إسرائيل، بدعم أميركي واضح، ستقوم بذلك نيابة عنها، وبوسائل عسكرية مدمّرة. فبعد الحرب الأخيرة، التي تسبّبت بدمار واسع وخسائر بشرية ومادية كبرى، لم يخرج “حزب الله” منها بموقع تفاوضي قوي، بل بالعكس، بات أكثر انعزالاً لبنانياً وإقليمياً، وأقلّ قدرة على تبرير سرديته.
ما نعيشه اليوم ليس فقط أزمة سلاح أو عدواناً خارجياً. إنه أزمة تصوّر للبنان: من يحكمه؟ من يحميه؟ ومن يتحدّث باسمه؟ واستمرار التهرّب من الإجابة لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الخراب.
السلطة الجديدة أمام اختبار مصيري: إما أن تبدأ باستعادة دور الدولة فعلاً، عبر خطاب واضح وإجراءات مسؤولة تجاه قضيّة السلاح، وإما أن تكرّس موقع لبنان كأرض مستباحة بين سلاحين، بلا سيادة فعلية، ولا مستقبل.