اشتهرت الكويت منذ عقود بعمل الخير وتقديمها المساعدات للدول والشعوب المُحتاجة في العالم، وحصلت من الأمم المتّحدة في عام 2014 على لقب “بلد الإنسانيّة”، وأميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح على لقب “قائد العمل الإنساني”.
لم يكن ذلك وليد لحظته، بل نتيجة عمل تراكميّ استمرّ عقوداً، وتعزّز بشكل خاصّ بعد الغزو العراقي مطلع التسعينيّات، حين انتهجت الكويت سياسة قوامها “المساعدة بسخاء وبلا شروط سياسية”، بهدف تعزيز “القوّة الناعمة” لبلد صغير مجاور لدول كبرى وذات ثقل عربي وإقليمي.
يتمّ تقديم الدعم الرسمي، عادة، إمّا مباشرة من الحكومة، وإمّا عبر الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، الذي يُقدّم هبات لبعض الدول، لكنّ دوره الأساس يتمثّل في تقديم القروض للدول النامية. أمّا الدعم الأهليّ فيتمّ تقديمه عبر الجمعيّات والمبرّات الخيريّة التي يصل عددها إلى أكثر من 150.
سجّلت الأمم المتّحدة والولايات المتّحدة ملاحظات كثيرة على الجمعيّات، وأبلغتا الكويت بها مراراً. لكنّ الإجراءات التي اتُّخذت لم تكن فعّالة إلى الحدّ الذي يرفع “العمل الخيري” إلى “درجة النقاوة 100%”
أعمال مشبوهة
في السنوات الماضية، نشطت جمعيّات كثيرة، تحت عنوان “بلد الإنسانية” لتحقيق أهداف سياسية و”مشبوهة”، وفق تقارير من الأمم المتّحدة والولايات المتّحدة. على الرغم من وجود جمعيّات تابعة للسلفيّين وإسلاميّين محافظين، لكنّ الغالبيّة مرتبطة بجماعة “الإخوان” وشكّلت “رافعة كويتيّة” للكثير من فروع الجماعة في دول عربية وغربية.
نتيجة لذلك، سجّلت الأمم المتّحدة والولايات المتّحدة ملاحظات كثيرة على الجمعيّات، وأبلغتا الكويت بها مراراً. لكنّ الإجراءات التي اتُّخذت لم تكن فعّالة إلى الحدّ الذي يرفع “العمل الخيري” إلى “درجة النقاوة 100%”.
في العهد الجديد (بعد تولّي الأمير الشيخ مشعل الأحمد مقاليد الحكم في كانون الأوّل 2023)، باتَ كلّ شيء مختلفاً، خاصّة أنّ “الضبط الإداري” هو أحد العناوين الكبرى للمرحلة (إلى جانب ملفّ الهويّة الوطنية الذي يتواصل العمل عليه من خلال استمرار سحب الجنسيّات من غير مُستحقّيها الذين وصل عددهم إلى عشرات الآلاف).
قرار صادم
مع تراكم الملاحظات، اتّخذت الحكومة في 18 نيسان الماضي قراراً غير مسبوق شكّل صدمةً للكثيرين، تمثّل بوقف كلّ عمليّات جمع التبرّعات الخيريّة، “عقب رصد روابط إلكترونية لمواقع غير رسميّة ومجهولة المصدر تقوم بالجمع دون ترخيص، في مخالفة صريحة لقوانين الدولة المنظّمة لجمع الأموال للأغراض العامّة”.
شدّدت الحكومة، ممثّلة بوزارة الشؤون الاجتماعية، على أنّ “هذا القرار يأتي حمايةً لسمعة العمل الخيري الكويتي، وضمان سلامة أموال المتبرّعين من سوء الاستغلال”، معتبرة أنّ بعض “الممارسات الفردية غير المسؤولة قد تُسيء إلى الصورة الإنسانية المُشرّفة التي ترسّخت عن الكويت ومؤسّساتها الخيريّة في الداخل والخارج”.
مع تراكم الملاحظات، اتّخذت الحكومة في 18 نيسان الماضي قراراً غير مسبوق شكّل صدمةً للكثيرين، تمثّل بوقف كلّ عمليّات جمع التبرّعات الخيريّة
جولة خليجيّة
عقب القرار، توالت الاجتماعات بين وزارة الشؤون الاجتماعية والجهات الحكومية المعنيّة بهدف وضع الضوابط الجديدة، وأرسلت الكويت، خلال الأسابيع القليلة الماضية، وفوداً إلى دول خليجية للاطّلاع على تجاربها في تنظيم العمل الخيريّ والإنسانيّ “وفق أعلى المعايير الدولية”.
خلال زيارة السعودية، جرى الاطّلاع على التجربة المُتقدّمة والنموذج المُلهم للمملكة، ومعاينة “الممارسات المتقدّمة في مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحيّ”.
خلال زيارة الإمارات، عايَنَ الوفد الكويتي التجربة الإماراتيّة الرائدة في مجال التحوّل الرقمي وحوكمة التحويلات الماليّة، واطّلع في وزارة الخارجية على “آليّات الحوكمة المعتمَدة في تنظيم التحويلات الماليّة المتعلّقة بالعمل الخيري”، وفي “مؤسّسة محمّد بن زايد آل نهيّان للأثر الإنساني” على توظيف المعرفة والتكنولوجيا لرفع جودة الحياة وتعزيز أثر البرامج الإنسانية، وفي “مؤسّسة خليفة بن زايد آل نهيّان للأعمال الإنسانية” على المبادرات النوعية، خصوصاً في دعم الأسر المتعفّفة والفئات الأكثر احتياجاً.
في زيارة قطر التي شملت جمعيّة الهلال الأحمر القطريّ وجمعية قطر الخيريّة وهيئة تنظيم الأعمال الخيريّة القطرية، اطّلع الوفد الكويتي على “البنية المؤسّسيّة المتقدّمة والتكامل المتميّز بين القطاعين الحكومي والأهلي والتزام الجهات المختصّة بأعلى معايير الشفافية والحوكمة”.
سيتمّ تصنيف الجمعيّات الخيرية وفق 3 فئات: “ملتزم”، “ملتزم جزئيّاً” و”غير ملتزم”، مع “إيفاد فرق التفتيش الميدانية إلى المقرّات للتأكّد من التزام حوكمة العمل”
الضّوابط الجديدة
مع انتهاء الجولة الخليجية، عمل المسؤولون الكويتيون على “تكييف” الممارسات المُلهمة مع ما يتوافق مع خصوصيّة البيئة الكويتية، وصدَرَ قرار، نهاية حزيران الماضي، باستئناف العمل الخيري، لكن وفق شروط وآليّات جديدة.
من أهمّ الضوابط التي باتت مطلوبة من الجمعيّات الخيريّة أن يكون عملها شفّافاً بشكل تامّ، بحيث يتوجّب عليها أن تلتزم جمع التبرّعات حصراً للمشاريع الخيريّة المُرخّصة. والترخيص لأيّ مشروع بات مرتبطاً بموافقة وزارة الداخلية إذا كان المشروع داخليّاً، وبموافقة وزارتَي الداخلية والخارجية إذا كان خارجيّاً.
من المتوقّع أن تؤدّي هذه الخطوة إلى فرض رقابة تامّة، مع العلم أنّه قبل سنوات عندما تمّ إلزام الجمعيات بالوسائل البنكيّة بدل “الكاش”، انخفضت المبالغ بالملايين، وهو ما أثار تساؤلات عن الوجهات السابقة لتلك المبالغ.
إقرأ أيضاً:
لإغلاق أبواب “الأعمال المشبوهة”، بات لزاماً على الجمعيّات “إدراج حصيلة جمع التبرّعات بشكل يوميّ ببرنامج مكننة إدارة الجمعيّات الخيريّة والمبرّات”، ولم يعد بإمكانها أن تستقطع النسبة التي تريدها للأعمال الإدارية، وإنّما عليها إعلانها وإبلاغ الجهات الحكومية بها، إذ إنّ بعض الجمعيّات كانت تستقطع ما يصل إلى حوالي 20 في المئة من التبرّعات تحت عنوان “الأعمال الإدارية والسكرتارية”، وهي نسبة كبيرة جدّاً.
سيتمّ تصنيف الجمعيّات الخيرية وفق 3 فئات: “ملتزم”، “ملتزم جزئيّاً” و”غير ملتزم”، مع “إيفاد فرق التفتيش الميدانية إلى المقرّات للتأكّد من التزام حوكمة العمل”.