تمامًا كما استلزم قرار حزب العمال الكردستاني التاريخي إنهاء عقود من العنف خدمةً لقضية نبيلة كقضية الأكراد، يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى قرار تاريخي جريء مماثل يحفظ وجودهم على أرضهم.
متى تنتهي عذاباتهم
ظهر عبدالله أوجلان من سجنه ليعلن قراره التاريخي بإنهاء العمل المسلح ضد تركيا، وتخلي حزب العمال الكردستاني عن السلاح، مع انتقال كامل إلى السياسات الديمقراطية السلمية، سعيًا لتحقيق السلام مع تركيا. وقد شكّل هذا الإعلان نقطة تحوّل بارزة في المنطقة، في ظل معطيات إقليمية ودولية تمهد لمعادلات سياسية جديدة، ستلقي بظلالها على القضية الكردية الممتدة عبر عقود، والتي ظلت خياراتها محصورة في إطار العمل المسلح، دفع خلالها عشرات الآلاف من الأرواح البريئة.
قرار الأكراد لا يعني وأد “الحلم الكردي”، وإنما يعكس تغييرًا في الطريق نحو تحقيقه، بعد قراءة معمّقة للواقع وما حمله من إرهاصات الصراع، التي تُنذر باقتراب ولادة شرق أوسط جديد. وكان لا بد من تحول إستراتيجي لاختيار مقاربة مختلفة تخدم القومية الكردية، في ظل تمدد تركي داخل سوريا الجديدة، برضى أميركي يميل إلى ترجيح ميزان مصالح الدول على حساب مساعي الميليشيات.
عبر التاريخ، ثمة محطتان تتوجب دراستهما باستفاضة قبل أي قرار بالعمل العسكري المسلح. الأولى: تجربة الهنود الحمر في الولايات المتحدة، الذين فني معظمهم في محاولة تحرير أراضيهم، ولم يتبقَ منهم سوى مئات الآلاف بما يعادل 1.5 في المئة من مجموع سكان البلاد، بعد أن سُحقوا على يد مستوطنين ومهاجرين أوروبيين. أما المحطة الثانية؛ فهي تجربة الهند السلمية في التحرر من الاحتلال البريطاني، وهي تجربة يدركها الكثير من الفلسطينيين، إذ أن معركتهم هي معركة بقاء وصمود على الأرض، لا معركة اندثار وفناء. وهذا ما يتطلب إجماعًا وطنيًا فلسطينيًا لم يتحقق بعد، في ظل لجوء بعض الأطراف إلى الارتهان لأجندات إقليمية غير معنية بحياة الفلسطينيين أو باستمرارية قضيتهم، سعيًا لتسويق أوهام غوغائية تُرضي عوام الشعوب التي تصفق للشعارات والخطابات العنترية الصاخبة، بهدف تحقيق مصالح تلك الأجندات على حساب الدم الفلسطيني.
◄ قرار الأكراد لا يعني وأد “الحلم الكردي”، وإنما يعكس تغييرًا في الطريق نحو تحقيقه، بعد قراءة معمّقة للواقع وما حمله من إرهاصات الصراع، التي تُنذر باقتراب ولادة شرق أوسط جديد
هل يحتاج الشعب الفلسطيني إلى خمسين ألف قتيل مجددًا؟ هل يحتاج إلى مئات الآلاف من الجرحى والمفقودين؟ هل يحتاج إلى محو مدن عن بكرة أبيها؟ هل يحتاج إلى أن يعيش أكثر من مليون ونصف مليون من مواطنيه في العراء؟ هل يحتاج إلى انهيار كيانه السياسي المتمثل بالسلطة الفلسطينية ومرجعيته منظمة التحرير؟ هل لا يزال يؤمن، بعد كل ما جرى في المنطقة، بأن العنف المسلح هو الخيار الأفضل والأكثر استدامة في ظل اختلال ميزان القوى الدولية؟
تمامًا كما استلزم قرار حزب العمال الكردستاني التاريخي إنهاء عقود من العنف خدمةً لقضية نبيلة كقضية الأكراد، يحتاج الفلسطينيون إلى قرار تاريخي جريء مماثل، يحفظ وجودهم على أرضهم، ويصون قضيتهم العادلة؛ كما فعل الرئيس الراحل ياسر عرفات حين وقّع اتفاقية أوسلو، والتي تمثل ذروة العمل السلمي الفلسطيني الحقيقي. لذلك، بات من الضروري اليوم البحث عن مقاربة سياسية قائمة على ما سبقها من حراك دبلوماسي، في إطار إقليمي ودولي، تنْقل الفلسطينيين من دوائر العنف المحكومة بإملاءات إيران ومحورها المتهاوي، وتوجهات العبث الأيديولوجي الإخواني، إلى فضاء النضال السياسي السلمي بجميع تجلياته.
ومع بدء اتضاح نتائج الصراع في المنطقة، والمسعى الجدي للتحول من دولة الميليشيات إلى الدولة الوطنية، كمفهوم يعكس استقرار شعوب الإقليم، وصرامة الحراك الدولي الرامي إلى تنفيذ حل الدولتين بقيادة المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية، وثقل قنوات الدبلوماسية الإماراتية، الأردنية، والمصرية، المتزامنة مع الخطوات الإصلاحية لهياكل السلطة الفلسطينية لتأمين مستقبل استمراريتها، يشكل كل ذلك بيئة مواتية لانتقال الفلسطينيين نحو خيار المقاومة الشعبية السلمية. هذا الخيار الوحيد القادر على إعادة تموضع العمل الوطني الفلسطيني في سياق سياسي وإنساني يُلزم المجتمع الدولي ومؤسساته بتحمل مسؤولياتهم في صد الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية، بل ويُجبرهم على تفعيل آليات لمحاسبة إسرائيل على مجمل جرائمها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
وبالعودة إلى عنوان المقال؛ تتشابه القضيتان الكردية والفلسطينية في العديد من الجوانب: فشعبان محرومان من حق تقرير المصير والعيش في دولة مستقلة، يعانيان من الاحتلال والتهميش، ويسعيان إلى نيل الاستقلال والاعتراف الدولي. ويستدعي هذا التشابه ما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش:
فَعَلْتُ ما فعل الضبابُ بإخوتي
وشَوَيْتُ قلبي كالطريدة. لن أكون
كما أريد. ولن أحبَّ الأرض أكثر
أو أَقلَّ من القصيدة. ليس
للكرديِّ إلاّ الريح تسكنُهُ ويسكُنُها.
وتُدْمِنُهُ ويُدْمنُها، لينجوَ من
صفات الأرض والأشياء
فالرياحُ وصيَّةُ الكرديِّ للكرديِّ في منفاهُ.