ديمقراطية الانتخابات ودكتاتورية سيليكون فالي
الخوف من أن نصحو يومًا لنجد وظيفتنا قد سطا عليها الذكاء الاصطناعي أصبح عامل خوف مشتركا بين الجميع. الاختلاف فقط حول متى وكيف؟ لكن، ما لا يُقال غالبًا هو أن الذكاء الاصطناعي لم يتوقف عند سرقة الوظائف، بل بدأ يطرق أبواب السياسة ويوجهها.
الخوارزميات اليوم هي من يُحدد ما نقرأ، ومن نحب، وما نشتري، لهذا لم يكن مفاجئًا أن يقرر أحد أباطرة التكنولوجيا أن يُحدد أيضًا من يحكم. إعلان إيلون ماسك، الملياردير المثير للجدل، عن تأسيس “حزب أميركا” ليس مجرد خطوة سياسية، بل قرارًا جريئًا يكشف عن طموح يهدف إلى السيطرة على المستقبل السياسي للشعوب، لا من خلال صناديق الاقتراع فقط، بل من خلال النفوذ الرقمي والاقتصادي والإعلامي.
عندما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2017 إن “من سيقود الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم،” كان الحديث يبدو استشرافيًا أكثر منه واقعيًا. من كان يصدق حينها أن نبوءة بوتين ستبدأ في التحقق بهذه السرعة؟ فمن قيادة الطائرات الذاتية إلى توليد النصوص القانونية، انتقل الذكاء الاصطناعي من المساعدة إلى التوجيه، ومن التنبؤ إلى اتخاذ القرار.
لم يكن إعلان ماسك عن حزبه الجديد عبر مؤتمر صحفي تقليدي، بل عبر منشور على منصته “إكس” (تويتر سابقًا)، حيث كتب: “بنسبة اثنين إلى واحد، تريدون حزبًا سياسيًا جديدًا، وستحصلون عليه!”. هكذا، بمنتهى البساطة، يُحوّل استطلاعًا رقميًا إلى مشروع سياسي، ويُعلن عن تأسيس حزب في يوم الاستقلال الأميركي، وكأن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من تغريدة ومليوني متابع.
◄ إيلون ماسك عبقري، لا شك في ذلك. لكنه ليس فوق الديمقراطية. ولا يحق له، أو لغيره، أن يُعيد تشكيل النظام السياسي الأميركي أو العالمي بناءً على استطلاع رأي على منصة يملكها
لكن وراء هذه البساطة الظاهرة، تكمن معادلة معقدة: ماسك لا يملك فقط المال، بل يملك المنصة، والجمهور، والخطاب. إنه لا يترشح، لكنه يُرشّح. لا يخوض الانتخابات، لكنه يُعيد تشكيل قواعد اللعبة الانتخابية.
وفي سياق رد الفعل، لم يتأخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التعليق. في تصريح أدلى به للصحافيين من مطار في نيوجيرسي، وصف تأسيس ماسك لحزب جديد بأنه “أمر سخيف” و”مزعج”، مؤكدًا أن مثل هذه الخطوة تُسبب إرباكًا للحياة السياسية الأميركية. ثم عاد ليكتب على منصته “تروث سوشيال” أن ماسك “خرج عن المسار” وبات “حطام قطار”. لم يكن الخلاف على الفكرة فقط، بل على من يحتكر خطاب “الإنقاذ” في ساحة السياسة.
ماسك ليس أول ملياردير يدخل السياسة، لكنه أول من يفعلها بهذه الجرأة موظفا التكنولوجيا الرقمية. لقد موّل حملة ترامب، ثم اختلف معه، ثم قرر أن يُنشئ حزبًا ينافس الحزبين الجمهوري والديمقراطي معًا. لا لأنه يحمل رؤية سياسية متكاملة، بل لأنه يرفض مشروع قانون ميزانية، ويرى أن النظام الحزبي الأميركي “أحادي وفاسد”. وقبل كل شيء يملك الوسيلة لفعل ذلك.
والسؤال الآن: من يوقف هذا التمدد؟ من يضع حدودًا فاصلة بين رأس المال والتشريع؟ بين من يملك الأقمار الصناعية ومن يكتب الدستور؟ وهل يُمكن لمن يملك المنصة أن يملك الرأي العام؟
ماسك يطرح نفسه منقذا للديمقراطية، بينما هو في الواقع يُعيد تعريفها. فهل الديمقراطية هي أن يُقرر 65 في المئة من متابعيه على “إكس” تأسيس حزب؟ وهل استطلاع رأي على منصة يملكها شخص واحد يُعادل إرادة شعب؟ وماذا لو قاد استطلاع اليوم إلى رسم سياسة الغد؟
إنها ديمقراطية مشروطة بمن يملك المنصة، ومن يملك الخوارزميات، ومن يملك القدرة على توجيه الرأي العام. ديمقراطية تُدار من خوادم سيليكون فالي، لا من صناديق الاقتراع. وماسك — بامتلاكه المنصة، والبيانات، والجمهور — لا يُعيد تشكيل السياسة فقط، بل يُعيد تشكيل المزاج العام.
◄ ماسك يملك ما لم يملكه ترامب: التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والقدرة على التحكم في تدفق المعلومات
خلاف ماسك مع ترامب ليس خلافًا على المبادئ، بل على من يحتكر الخطاب الشعبوي. كلاهما يرفع شعار “استعادة الحرية”، وكلاهما يتهم الآخر بالفساد، وكلاهما يرى في نفسه المخلّص. لكن ماسك يملك ما لم يملكه ترامب: التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والقدرة على التحكم في تدفق المعلومات، وكلها أدوات تتجاوز السياسة التقليدية.
ماسك لا يدخل في السياسة من بوابة الأحزاب، بل من بوابة الخوارزميات. يُخاطب جمهوره بلغة المنصات، ويستطلع رأيهم بلغة البيانات، ويقيس شعبيته بعدد إعادة التغريد.
هل نحن أمام “حزب خوارزمي”؟ ما يثير القلق ليس فقط تأسيس حزب جديد، بل الطريقة التي يتم بها ذلك. فالحزب لا يقوم على برنامج سياسي واضح، بل على استطلاع رأي، وعلى رفض مشروع قانون، وعلى شعارات فضفاضة مثل “إعادة الحرية” و”مواجهة الفساد”. شعارات قابلة للتخصيص، تُسوّق كما تُسوّق السيارات الكهربائية، وتُعدّل حسب التفاعل، وتُراجع حسب بيانات الجمهور.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن تتحول السياسة إلى منتج رقمي، يُسوق ويُستهلك ويُتفاعل معه، لا يُمارس ولا يُناقش. أن يصبح التصويت مثل الضغط على زر، والتأييد مثل متابعة حساب، والرفض مثل حظر خوارزمية.
السؤال الأخلاقي والسياسي الآن لم يعد عن أهلية ماسك للترشح، بل عن أهليته لتشكيل المزاج السياسي، وتوجيه الرأي العام، والمساهمة غير المباشرة في رسم ملامح القيادة القادمة.
من يضع الحدود؟ ومن يمنع تحوّل المنصات إلى بديل عن الدساتير؟ ومن يقف بوجه التحول الصامت من الديمقراطية التشاركية إلى “دكتاتورية رقمية” مدعومة بالخوارزميات؟
إننا بحاجة إلى نقاش عالمي حول حدود السلطة الرقمية، تمامًا كما ناقشنا في الماضي حدود السلطة العسكرية أو الدينية. فالعصر الجديد لا تحكمه الدبابات، بل البيانات، ولا تصنعه الأحزاب فقط، بل المنصات التي تُعيد تعريف الحرية من خلف شاشة.
إيلون ماسك عبقري، لا شك في ذلك. لكنه ليس فوق الديمقراطية. ولا يحق له، أو لغيره، أن يُعيد تشكيل النظام السياسي الأميركي أو العالمي بناءً على استطلاع رأي على منصة يملكها. الديمقراطية ليست تطبيقًا يُحدّث كلما أراد أحدهم، بل عقدٌ اجتماعيٌ تُشارك فيه الشعوب، لا تُقاد فيه من قبل أصحاب النفوذ الرقمي.
إن لم نضع حدودًا لهذا التمدد، فقد نجد أنفسنا يومًا ننتخب عبر “إكس”، ونُحاسب عبر “تسلا”، ونُحكم من قبل خوارزمية لا تعرف الفرق بين الحرية والدكتاتورية.